ثقافةصحيفة البعث

السّويداء تحتفي بصقر عليشي.. شاعر “الاليسكو 2024”

السويداء- رفعت الديك

كيف تكتب شعراً جميلاً بأدوات بسيطة يظنّ القارئ أنه يستطيع كتابة مثله؟ وكيف تلتقط ما لا يراه الآخرون وهو أمام عيونهم أو تقول ما يخطر ببالهم، لكنهم لو أرادوا قوله لما استطاعوا؟ أو تقول ما يظنون أنه خطر ببالهم من قبل؟ هذه الأسئلة وسواها الكثير طرحها صقر عليشي على نفسه فعلياً أو افتراضياً وأجاب عنها بطريقته المتفردة الخاصة فيه، وما الأعمال الشعرية الكاملة التي احتفل اتحاد الكتّاب العرب بالسويداء بإصدارها من قبل وزارة الثقافة كما احتفل بعليشي شاعر هذا العام إلّا أجوبة عنها وعن سواها، وعن طريقته الشخصية في مزاولة الحياة اليومية وفي مزاولة الجمالات واللطائف بأنواعها ومعاندة القبائح ومناكفتها بالسخرية والفكاهة وعما عاشه بكل بساطة. تقول رئيسة فرع اتحاد الكتّاب العرب في السويداء وجدان أبو محمود إنه بمناسبة اختيار المنظمة العربية للثقافة والفنون والتربية “اليسكو” الشاعر صقر عليشي كشاعر لهذا العام بمناسبة اليوم العربي للشعر، استضاف فرع اتحاد الكتاب العرب في محافظة السويداء الشاعر عليشي، تكريماً له، واحتفالاً بإصدار أعماله من قبل وزارة الثقافة.

وحول خصوصية شعر عليشي تقول أبو محمود إنه متفرد في شعره، حيث يترك بصمة خاصة له في كل نص يحق لنا القول إنه مدرسة بحدّ ذاتها، فهو يكتب قصيدة شفافة كما لا تخلو قصائده من السخرية الهادفة، إنه يلعب مع الحياة بمفرداته النادرة وكلماته الوجدانية ومشاعر جياشة وألوان وصيغ لغوية عذبة وبسيطة.

كلام أبو محمود شجعنا على الاستشهاد بقصائد عدّة لعليشي، فمثلاً يقول في قصيدة “امرأة”:

رحب عينيك لماذا أتى

مثقلاً بالليل والقمر

غرفة الريح هذه سكني

وشبابيكي من المطر

لم يزل في كل ناحية

لي مدى يمشي مع الشجر

أنا محتاج إلى امرأة

كي أخبي عندها عمري

إن شعر عليشي منذور للمتعة والبهجة بما هو بسيط وعفوي وجميل في مختلف الأشياء والظواهر والأشكال والمعاني، بل حتى الظواهر المستقبحة تبدو لديه مثيرة للفكاهة فتنعكس بهجة لا كدراً، وكأننا نقول إن مشاعر الحزن والكآبة هي مشاعر غريبة عن أجواء صقر عليشي حتى إن تلامحت أطيافها في شعره، فغالباً ما تتلامح عرضاً فلا تطبع القصيدة بطابعها ولا تغيّر في منحاها الشعوري الإيجابي العام، فهي لا تظهر إلا بوصفها وتراً خفيف الصوت في جوقة البهجة العامة، ما يعنى أن الشاعر لا يكلف قارئه عناء المشاعر السلبية أو القاسية أو الحادة، إنما يدعوه إلى التأمل والاستمتاع والتعرف إلى النوافذ التي يمكن أن يبتسم منها هواء الأنس، يقول هنا الدكتور ثائر زين الدين: “عندما نقرأ شعر عليشي نرى كم من الروافد العالمية صبّت في هذا الشعر، وكم استطاع الاستفادة من الأنواع الشعرية التي عرفها الشعر الأوروبي والروسي والسوفييتي والشعر الأمريكي، والنقطة التي وقفت عندها بعمق هي استفادته من الفن التشكيلي، إذ استطاع توظيف اللون واللوحة في القصيدة، فيقول في قصيدة “نهر العاصي” مثلاً:

يا نهر العاصي البليد

لماذا تتلوى هكذا

هل يلسع برد الصباح

مؤخرتك البيضاء

قم إلى العشق

فالحقول سرحت لك شعرها

ورفعت سواعد البندورة

راية الأرض

يضيف زين الدين: “عليشي ابن بيئته الريفية وابن قريته حتى الآن، ولا نجد قصيدة له إلا ونرى فيها آثار الريف الصافي النقي يستقي منها الشاعر عناصر قصيدته كفنان، ويستلهم من الطبيعة ألوان قصيدته ويسبغ على الكائنات الحية في قصيدته صفات الإنسانية، ويستمر الشاعر الرسام في العمل على لوحته حتى تلك اللحظة والتي، يفاجئنا وكأنه نفسه تفاجأ أيضاً بلون اللوحة فيعيدها إلى البيضاء، فمن تجاربه الطريفة قصيدة “خارج السرب”:

صوت الحليب أبيض

أسمعه يفيض من جوانب الإناء

تحليقة النورس بيضاء

تحطّ في مكانها المتعة

بين الأرض والسماء

فالشاعر في قصيدته هذه وغيرها من القصائد أراد تقديم صورة جديدة عبر إشراك كلّ الحواس في تذوق صوره وإن كانت عصيّة عن الفهم، يضيف هنا الكاتب بيان الصفدي: “تمتاز تجربة عليشي بمجموعة من الخصائص، فهو يكتب قصيدة شفافة ويهتمّ بالتفاصيل المستمدة من الريف، ويعتمد على الأسلوب الساخر فيها بصمة خاصة بكلمات مليئة بالوجدان، وفيها الدراما ومشاهد وألوان وصيغ لغوية متعدّدة وبلغة عذبة وبسيطة جعلته متفرداً في الشعر السوري، فيقول في قصيدة “رحلة”:

تحت تأثير كتلة عشق

وتأثير منخفض قادم

من سفوح امرأة

سوف أبقى إلى

آخر الليل والحبر

في رحلة دافئة

ونجد في قصيدة “شرفة” صوراً أكثر عمقاً ودلالة على أسلوب شاعرنا، حيث يقول:

الشعر لا يأتي

وأنت على انتظار

والشعر لا يأتي إلا

وأنت هناك إلا

من أفقك الوردي

عار

وبمحصلة الاحتفاء نجد أن عليشي لم يغادر الشكل الجمالي الغنائي البسيط، ولم يجرّب أي شكل من الأشكال الدرامية أو الملحمية، ولم يقترب من التراسل بين الأجناس الأدبية أو من التراسل مع الفنون الأخرى إلا ما جاء منه دونما قصد، بل قلما مال إلى النصوص المطولة التي تفترض بالضرورة التخفيف من الغنائية والميل إلى التعدّد في المشاعر والمواقف والحالات الإنسانية، فمن المعلوم أن الأشكال الدرامية والملحمية والمتراسلة معها تقوم أساساً على الصراع والحوار والتعدّد في المواقف والمشاعر المتباينة وهو ما لا يأتلف مع النزوع الغنائي الصرف لدى شاعرنا، كما أنه لا يميل أصلاً إلى توسيع رقعة المواقف والمشاعر في قصيدته التي يكتفي فيها بالتعبير عن شعور محدّد أو عاطفة معينة أو حالة خاصة، أي أن صقر عليشي يتعمّق في الشعور ولا يتوسع في المشاعر أو يعدّد وينوّع فيها.