الانتقال من المستوى الحزبي إلى الوطني .. دور البعث الريادي
د. مازن جبور
حزب البعث العربي الاشتراكي أمام تحد الدور، أي دور يمكن أن يأخذه في مستقبل سورية، وهو حزب قومي عروبي تحرري ثوري انقلابي لعقدين من الزمن، والحزب القائد لستة عقود مضت، والحزب الحاكم اليوم، حزب العمال والفلاحين سابقاً، وحزب الجماهير كل جماهير الشعب اليوم، أين يقف البعث وإلى أين يقود سورية؟ ما هي سياساته؟ وما هي أدواته؟ وكيف يرتب أولوياته؟
سنذهب في الإجابات إلى النهاية، حتماً يقف البعث في الواقع، ويعمل للانتقال بالبلاد من الحرب إلى ما بعد الحرب، وأمام هذا التحد الرئيس والعنوان العريض، يعد تغييب الواقع الإشكالية الأساسية التي على البعث تجاوزها، وقد شرع بذلك، إذ تمثل التطورات التي يجريها البعث في الوقت الراهن على بيته الداخلي، منطلقاً من بنيته التنظيمية، تعبيراً عملياً، يستند إلى حرصه التاريخي على تحقيق التكامل بين وحدته التنظيمية ووحدته الفكرية، وفي هذا انعكاس على علاقته بالمجتمع، وانعكاس على علاقته بالسلطة، وهو ما يتطلب ردم الهوة وسد الثغرات وبناء مداميك جديدة في مستقبل سورية.
إذاً منهجية البعث السابقة، تقتضي منه العودة إلى المجتمع، على اعتبار أنه عاد إلى جماهيره مع أقرب فسحة زمنية أتيحت له بعد أن نفض غبار الانغماس في الحرب دفاعاً عن وحدة وسيادة واستقلال سورية، عاد إلى جماهيره من بوابة الديمقراطية، وأدواته كانت الحوار والانتخاب، فكان تلقف البعثيين لحراك حزبهم الداخلي، مميزاً، فسرعان ما انخرطوا في الحوار وفي العملية الانتخابية، الأمر الذي انعكس في كل أوجه العمل السياسي والإداري في البلاد، وهو ما نجح فيه البعث، ونجاحه يعمّق من خلال إعادة قراءة التجربة بعد كل عملية انتخابية وتطويرها.
إذاً يمكن القول أن منهجية البعث في تفعيل العمل الحزبي السياسي بين جماهيره قد بدأت تؤتي أكلها، ولكن المكانة التاريخية والدور الريادي والوطني للبعث في تاريخ سورية، ومكانته الراهنة كحزب حاكم، يفرض عليه النظر إلى دوره الأبعد، أي ليس على مستوى جماهيره، وإنما على المستوى الوطني، ومن ثم عليه أن ينطلق بمشاريع إعداد وثقافة وإعلام تستهدف المواطنين من غير كوادره، بمعنى أن العمل اليوم يجب أن يكون حثيثاً في استقطاب المؤيدين، خصوصاً أننا أمام مرحلة جديدة من العمل الحزبي السياسي في البلاد، أساسها التعددية، ومن الطبيعي أن تخلق التعددية تنافس على الجمهور، وهذا يقتضي سياسات موجهة إلى الشعب بفئاته كافة، من منطلق أن الأولوية الآن، وبعد ترتيب البيت الداخلي، هي للآخر، والآخر هنا ليس المقصود به المختلف وحسب، ولكن الآخر الذي حولته الحرب ومفاعيلها، إلى كتلة غير متجانسة تتقاذفها الفوضى، فضاعت الهوية، وانشطر الانتماء، بفعل الاغتراب الثقافي والإعلامي، وضعف الإعداد.
إن التوصيف السابق يضع البعث أمام تحدٍّ جديد، عليه التعامل معه، من خلال منظومة الإعداد والثقافة والإعلام، فإذا كانت المهمة الأساسية لأي حزب إعداد كوادره وتثقيفهم بما يقوي رابطة الانتماء لديهم بالحزب والوطن والقضية، هذا على مستوى الحزب، فكيف الأمر إذا كان هذا الحزب حاكماً للدولة والمجتمع، حينها يصبح من مسؤولياته العمل على تحقيق الاندماج الوطني والالتزام السياسي، وممارسة دور الوسيط بين الرأي العام وحكومته، وضمان ثقافة انتخابية مبنية على ثنائية الوعي وتحمل المسؤولية في الاختيار، وهذه المهام تزداد أهميتها في البلدان التي تمر بمرحلة تحولات عميقة، على صعيد السياسة والاقتصاد والاجتماع.
ومن ثم فإن مسؤولية تكريس القيم والاتجاهات السياسية والأنماط الاجتماعية الإيجابية، وذات المغزى السياسي، من خلال تكوين رؤية المواطن نحو المجتمع والدولة، وذلك عبر الأدوات الفاعلة في تحقيق ذلك، ومنها الوسائل الإعلامية ووسائل التربية والتعليم والمنابر الخطابية والمنتجات الفكرية، ومختلف الآليات التي تساهم في اتساع دائرة الحوار ودائرة القرار، بغية إعطاء المشاريع العامة صبغة وطنية، وصبغة مؤسسية، خصوصاً أن الثقافة هي ثقافة المجتمع، فهي مسؤولية جماعية عامة، أي ليس المقصود هنا عملية تثقيف حزبي فقط، ومن ثم كان من الأهمية بمكان التفكير بمنهجية عمل لرسم سياسة ثقافية عامة في البلاد، يشارك فيها الجميع، ويمكن للبعث أن يقود هذا العمل بكونه حزباً حاكماً.
فتحديث الفكر، والتصدي لمحاولة زرع اليأس كعقيدة، من خلال الحروب العقائدية كالنازية الجديدة والتطرف الديني والليبرالية الحديثة، وإيجاد ثقافة نابذة للفساد وداعمة للإصلاح والتطوير، وتعزيز منظومة القيم الإنسانية والوطنية، وإعادة الالتفاف حول هوية وطنية جامعة بمضامينها الاجتماعية والفكرية، وتعزيز فهم المجتمع الصحيح لمفاهيم مثل الأمة والقومية والعروبة والدولة والمجتمع والسلطة والوحدة والحرية والسيادة والاستقلال والعدالة الاجتماعية، والعلاقة بينها، كفيلة بالتصدي لحرب الأفكار على سورية والمنطقة، وذلك من خلال رفع مستوى الوعي لتحقيق فهم اجتماعي متقدم للقضايا الوطنية الكبرى.
وهنا لا بد من التأكيد على أن الثقافة هي أشكال الوعي الموجودة في المجتمع، والتي يصوغها قوى وتيارات ومفكرين وأكاديميين وباحثين من مختلف الاختصاصات، وتنفذها أدوات وأجهزة، لا يمكن اختزالها في إمكانات أي حزب أو أي وزارة للثقافة أو الإعلام، فالتثقيف هو العمليات التي يقوم بها الجميع من مؤسسات دولة ومؤسسات خاصة وقوى وتيارات وأشخاص، بهدف رفع الوعي الثقافي للمواطنين، وتوسيع آفاقهم بما يتيح لهم أن يعيشوا آفاق العصر الذي يعيشونه، ويسهموا في النهوض بوطنهم إلى ما يرتقي به لكي يلحق بركب التقدم العالمي، وذلك على نحو لا يوقع التناقض بين الخاص والعام، المحلي أو القومي أو الإنساني، ويجعل المواطن مؤمناً بخصوصية ثقافته وارتباطها وتفاعلها مع كل ثقافات العالم المتقدم.
لذلك فإن المطلوب اليوم هو الانتقال من المجال الحزبي الخاص إلى المجال الوطني العام، سواء على مستوى المعنيين بالأمر من مخططين ومنفذين، أو على مستوى شمولية الأفكار والعناوين والمفاهيم، أو على مستوى دائرة المستهدفين، لذلك فإن الانتقال من مستوى الجمهور الحزبي إلى مستوى الشعب كله، هو حاجة للبعث، ومسؤولية وطنية من المفروض أن يتصدى لها، ليزيد بذلك إنجاز وطني إلى سجله الحافل بالمهام الوطنية المنجزة عبر تاريخ سورية الحديث.