نتنياهو وكيانه أمام العدالة الدولية
د . خلف المفتاح
سواء مثل نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت أمام قضاة المحكمة الجنائية الدولية أو لم يمثلوا، وهذه هو الأرجح، إلا أن صدور مذكر توقيف بحقه ووزير دفاعه من المدعي العام للمحكمة هو نجاح للعدالة الدولية وتبيان للحقيقة وانتصار للإرادة الدولية التي عطلها غير مرة الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن، وتعرية للمجرم الذي طالما حاول الظهور بمظهر الضحية للإرهاب، الذي يدعيه ويتهم به من يدافع عن حقوقه المشروعة، ورفع الظلم عن شعبه.
ولعل صدور ذلك القرار يشكل انتصاراً معنوياً للمقاومة وانتصاراً للعدالة الدولية في تعقبها للمجرمين الخطرين أمثال نتنياهو وعصابته المسلحة، إذا علمنا أن الفكرة الأساسية لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية هي عدم تمكن المجرمين الدوليين من التفلت من العقاب إزاء ما يرتكبونه، أو ينسب إليهم من جرائم ذات طابع خاص من قبيل الإبادة الجماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب لما لتلك الجرائم من آثار كارثية على شعوب أو جماعات بعينها.
لقد نجحت فكرة إقامة محكمة دولية لمحاكمة وتعقب مرتكبي تلك الجرائم خلال اجتماعات عقدت في روما، وتمخض عنها إنشاء المحكمة الجنائية الدولية سنة 2002 بصدور النظام الأساسي للمحكمة، والذي وقعت عليه عشرات الدول بلغ عددها حتى الآن 124 دولة، واختيرت لاهاي العاصمة الهولندية مقراً للمحكمة التي تتشكل من 18 قاضياً وجهازاً قضائياً تنفيذياً مع آلية متابعة وملاحقة.
وقد حدد نظامها الأساسي الجرائم التي تقع ضمن صلاحياتها، وهي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية، مع تعريف وتوصيف قانوني لتلك الجرائم، ومن يقعون تحت صلاحياتها، مع الإشارة إلى أنها تحاكم الأشخاص لا الدول، وهذا ما يميزها عن محكمة العدل الدولية، إضافة أنها لا تحاكم من تمت محاكمته عن تلك الجريمة في بلاده وفق قوانينها الوطنية على قاعدة أنه لا يجوز محاكمة شخص أو متهم أو مجرم مرتين عن جريمة واحدة.
وحدد نظام المحكمة آلية التقاضي أو نظر القضايا أمام هيئتها، أي آلية التقدم بالشكوى من خلال أشخاص يتقدمون بوثائق وأدلة تتعلق بالجريمة المرتكبة، والشخص أو الجهة المتهمة، أو عن طريق دولة عضو في المحكمة، كما هو حاصل في ما جرى في غزة، حيث تقدمت دولة جنوب أفريقيا بطلب النظر في التحقيق بارتكاب جرائم حرب فيها من قبل نتنياهو ووزير دفاعه، أو عن طريق مجلس الأمن الدولي، حيث تقدم الشكوى لقاضي التحقيق والدوائر الابتدائية في المحكمة للنظر فيها واعتمادها أو رفضها.
تجدر الإشارة هنا إلى أنه يمكن للمحكمة أن تنظر في الدعاوى أو الشكاوى المقدمة إليها، والمتعلقة بأشخاص دولهم ليست عضواً في المحكمة أو قابلة لولايتها، فثمة أكثر من 70 دولة ليست موقعة على ميثاقها، ومن بينها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين والكيان الصهيوني، ولكن هذا لا يحول دون ملاحقة أشخاص متهمين بارتكاب جرائم حرب في تلك الدول أو غيرها.
ووفق آلية عمل المحكمة، يمكن للمدعي العام فيها إصدار مذكرة توقيف بحق الشخص أو الأشخاص المتهمين بارتكاب جريمة من الجرائم التي تقع ضمن صلاحياتها لجهة مثوله أمام هيئتها القضائية، ومحاكمته وإصدار الحكم عليه إدانةً أو تبرئةً من الجريمة المنسوبة إليه وسبق للمحكمة أن حاكمت مرتكبي جرائم أو متهمين بها كما هو الحال لأشخاص من صربيا ورواندا والسودان وليبيا وغيرها من دول بعضهم حوكم وصدرت بحقه أحكام قضائية، وبعضهم الآخر لم يمثل أمامها لعدم توفر تعاون مع عمل المحكمة من بعض الدول، مع غياب جهاز تنفيذي أو أداة تمكن المحكمة من جلب وإحضار المتهمين وتعقبهم حيثما تواجدوا، وهذه من نقاط ضعف عمل المحكمة التي تحتاج لتجاوزه تعاوناً دولياً معها.
ولعل ما يشير إلى ذلك الموقف السلبي للولايات المتحدة الأمريكية منها ومن عملها، حيث تم صدور قرار من الإدارة الأميركية قبل عدة سنوات يمنع محاكمة أي عسكري أمريكي أمامها على خلفية ما ارتكب من جرائم تنسب لعسكريين أمريكيين في العراق وأفغانستان خلال الاحتلال الأميركي لكلا البلدين، وما شهداه من جرائم بحق أبناء تلك البلدان وكلنا نتذكر ما جرى في سجن أبو غريب .
إن ما صدر عن المحكمة الجنائية الدولية ممثلة بالمدعي العام لها بحق رئيس وزراء العدو الصهيوني وشريكه في الإجرام غالانت يمثل خطوة هامة باتجاه افتضاح أمر هؤلاء المجرمين أمام الرأي العام العالمي بوصفهم مجرمي حرب، سيما وأن لهما صفتين سياسية وعسكرية، ما يعني أن العالم أمام حكومة مجرمة (ودولة ) مجرمة متهمة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ما يرتب على جميع دول العالم من الناحية القانونية والأخلاقية عدم التعامل مع هؤلاء وهذه الحكومة بالصفتين السياسية والشخصية، والمساعدة في إلقاء القبض عليهما وتقديمهما للمحاكمة لإيقاع ما يستوجب من عقاب جراء ما ارتكباه من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية بحق أبناء غزة، وهي جرائم مشهودة لا تحتاج إلى كثير من عناصر الإثبات، إضافة إلى الجانب الردعي من حكم المحكمة إن قيض لها محاكمتهم، وما يستتبعه من وقف للمحرقة التي يتعرض لها سكان غزة والضفة الغربية من قوات الاحتلال الصهيوني وساستهم.
إن ما وصلت إليه هيئة المحكمة، وصدور مذكرة توقيف وإلقاء قبض وجلب للمحكمة لهؤلاء المجرمين يتطلب تعاوناً دولياً صادقاً لتمكين المحكمة من مثولهم أمام هيئتها القضائية، واستصدار ما تراه من أحكام بحق هؤلاء المجرمين إعمالاً للعدالة الدولية. ولعل ما صدر عن بعض الدول الأوروبية بأنها مستعدة للتعاون في تنفيذ مذكرة إلقاء القبض على نتنياهو وغالانت هو أمر جيد ومشجع على تعاون دولي في هذا المجال، حيث الحاجة ماسة لذلك إنتصاراً للعدالة الدولية وإعلاء” للحق وردعاً للقتلة والمجرمين، إضافة إلى أن الوصول إلى ذلك سيحول دون وقوع جرائم ضد الإنسانية أو على الأقل الحد منها إن أدرك وأيقن المجرمون أن العدالة الدولية ستطالهم وأنهم لن يفلتوا من العقاب العادل .