ثقافة

“القربان” ينطلق من الواقع ويعودإليه

يحاول مسلسل “القربان” لمخرجه علاء الدين كوكش وكاتبه الشاب رامي كوسا رصد إرهاصات الواقع المعاش في سورية، وماتعانيه اجتماعياً من أزمات على الصعيد الشخصي “والجواني” للشخصيات، وكيف ينعكس على البيئة المحيطة وبالتالي على شرائح المجتمع كافة، فيعرض خفايا مسببات ما وصلت إليه سورية الآن، بعيداً عن النمطية والترويج، إذ يبدأ المسلسل بمشهد خارجي يلامس أزمة غلاء المازوت وتتصاعد الأحداث لتكون الحلقات متعددة الذرا ، من أزمة الغلاء ونزوح الناس من أماكن سكنهم إلى أمكنة أخرى، نحو تهريب الآثار وسرقتها، ليكشف خيوط التآمر بين أضعف الناس وحتى أقواهم على بعضهم البعض، كما يشرح مسلسل القربان إشكالية الانفتاح على الآخر والطبيعة الإنسانية التي ترفض الظلم مهما تعرضت له ولا تستطيع أن تذيقه لأحد ولو سنحت لها الفرصة، فيما تنفتح الأحداث على العكس تماماً، إذ يتمكن رشيد الذي قدم دوره الفنان سامر إسماعيل من التغلب على ضعفه والانصهار في لعبة البقاء للأقوى ويبدأ قلبه بالتحجر، ليطيح بوجه الظالمين برأيه، وكأنه يخلّص العالم من شرورهم، حتى يبدأ بخسارة نفسه وينكسر مجدداً، إذ لم يتمكن من مجاراة الغابة المعاشة بوحشيتها مجسدة بصور تلامس الواقع بكل ما فيها.
وبالرغم من تفرع مواضيع ومحاور “القربان”، إلا أنه تمكن وبجدارة من توظيف أبسط الشخصيات في موضعها الصحيح وقد حمّلها عدة رسائل تنبئ عن حقائق قد تغيب عن البال لكنها مفاتيح لما سيحدث فيما بعد، فشخصية سالم التي قام بتجسيدها رشيد عساف تمثل جزءاً غير مرضٍٍ عنه لرجل ذي نفوذ وهو الغارق في الفساد الذي ينقلب ضد البلد ويهرب مهاجراً ليبيع الوطنيات والقيم والمثل العليا، وهو المشهد الأخير في المسلسل كما سبقه في الحلقات السادسة وحتى  الخامسة عشرة، عبر مشاهد أخرى بين سالم القابض والشاب اليافع الذي يلعب دور الأخرس مستجدي المال الذي لم يصدقه سالم وأجبره على الاعتراف بكذبه مقابل مبلغ من المال، كما قدم له سالم نصيحة هي حصيلة بعض ما حمله المسلسل من رسائل إذ قال له: (بحياتك لا تلعب لعبة إذا ما كنت متمكن منها) وذات الشخصية يجتمع بها رشيد ويحاول مجدداً الشاب المستجدي استجداء بعض المال من رشيد الذي يفاجأ برده عندما يعيد له المال الذي أخذه ويؤكد له بعد أن برع في فهم نصيحة سالم، أنه يمكن أن يفعل أي شيء إلا أن يبيع نفسه للشيطان ولو كان قادراً على إحيائه من جديد، بينما رشيد في بداية المسلسل ولشدة قهره قد قبل بذلك ودفع الثمن سنوات من عمره سيقضيها في السجن بعد هروب سالم وانقلابه على كل قضايا المجتمع والبلد، في حين كان له سلطته وثغراته القانونية التي يصل عبرها إلى مآربه.
ومع تنامي الأحداث نلاحظ الرصد الواضح لاقتتال رؤوس الأموال واشتراكها في قضايا الفساد، كما يكشف الستار عن تفاصيل مايحدث وراء الكواليس وما يخفى عن العين في سراديب السجون. ويلقي الضوء أيضاً على قانون الأحوال الشخصية 508/1 الذي يسقط جريمة الزنا عن المغتصب إذا تزوج بضحيته وهو القانون المجحف بحق المرأة وإنسانيتها، ويتعمق المسلسل في طرح القضايا الإنسانية التي لم تطرح من قبل بهذا الوضوح كشخصية الزوج السادي (فايز قزق) الذي يعذب زوجته ويتسبب بتدهور حال ابنه الذي ينتهي به المطاف على كرسي مدولب إذ أصبح من ذوي الاحتياجات الخاصة وبشدة، وكذلك ما تتعرض له الفتاة أو السيدة من تحرش يكاد يودي بسمعتها كما حصل مع يارا التي أدت دورها أمل عرفة، وبهذا يمكننا القول إن المسلسل قد اعتنى بالجانب الإنساني للمرأة دون إهمال التفاصيل وجعله موازياً للمحور الأساسي في المسلسل وذلك باشتغاله على الخليط الطائفي في سورية ومدى تقارب شرائحه بالرغم من الظروف القاهرة، في حين يتعرض بعض الضعفاء والمعدمين للاستغلال والاستهتار كصيغة البقاء للأقوى، ولكن لآن محدد، كما يطرح “القربان” قضية الجفاف والنزوح منذ العام 2007 والذي تأتي على لسان لين التي جسدت دورها مرام علي والتي تنتحر في نهاية المسلسل هرباً من الظلم الذي نالته والذي تناله عائلة الشاب المتحرش بها.
ولم يكتف الكاتب والمخرج بتسليط الضوء على الحارات البسيطة والعشوائية وما يتعرض له ساكنوها من إشكاليات وصعوبات، بل سلط الضوء على شخصيات مهمشة في الواقع الحياتي بالرغم من عدم إمكانية استمرار الدورة الحياتية من دونهم كعمال النظافة ومدى الإنسانية والكرامة التي يتمتعون بها، عارضاً الجانب الآخر لوجود آخرين منهم لهم سلبيات لا تخفى عن الجميع، وبهذا تمكن المسلسل من تصدر قائمة الأعمال الرمضانية لجمعه ما تمكن من وجع وآمال كبار الشخصيات وحتى محض شخصيات القاع في المجتمع ما جعله معاشاً من صلب الواقع وإليه، إذ يتبين للمشاهد أن الجميع هم قرابين ريثما يحق الحق!.
كذلك على الصعيد الدرامي، فالمسلسل يحمل الكثير من العبر والرسائل عبر تسلسل أحداثه وسط حبكة مدروسة تشد المتابع للنهاية لكنه في الحلقتين الأخيرتين ابتلي بتسارع الأحداث كمن يلملم الخيوط ليقول قد انتهيت وهذا ما أربك المسلسل بعد تمكنه من إثبات نفسه وبجدارة على الساحة الدرامية في رمضان ويجعله -على خلاف ما يقول البعض- بين الأعمال المميزة والتي تنافس أهم الأعمال الدرامية الرمضانية لما فيه من شفافية وواقعية للفترة المعاشة من 2010 وحتى واقعنا اليوم.
ديمه داوودي