هـيـا نـشـتـرِ شـاعـراً
قد يبدو هذا العنوان -للوهلة الأولى- مثيراً للجدل، لكنه يستبطن سخرية من عالمنا المعاصر، والذي يبدو أن رؤية الروائي جورج أرويل تتحقق فيه على نحو أو آخر، لا سيما في كتابه الشهير (1984)، وللعناوين هنا سلطة تتعدى اللغة إلى حيز أكثر دلالة في انفتاح عتبات التأويل، لعلها الدلالة الواقعية التي تذهب إلى الدلالة المجازية، لكننا مع عنوان رواية البرتغالي (أفونسو كروش) هيا نشترِ شاعراً، والذي يثير قضية الشعر وحضور الشاعر وماهية الشعر بقالب ساخر، بحيث لا تبدو للقارئ أسماء أبطال روايته، بل ثمة أرقام، فالطفلة/الرقم ترغب بشراء شاعر، لنقف على تحولات عائلتها تجاه ما يفعله الشعر في حياتها أكثر مما يفعله الشاعر بذاته، وعلينا أن نتساءل خارج سياق هذه الرواية وداخلها، على أيهما ينصب اهتمامنا أكثر، لا سيما في أزمنتنا «الرقمية» على الشعر أم الشاعر، أم على الثقافة وتحولاتها، وكيف تشكل وعي الناس وطرائق تفكيرهم وأنماط حياتهم، وربما حاجاتهم الأخرى، والتي تبدو أقل تطلباً من الحاجات المركبة؟.
وكم تنبأ ذلك (الأعمى) خورخي بورخيس صاحب مرايا الحبر بما يكون عليه الشعر والشاعر، وسواه كثيرون ممن نظّروا للشعر في نهايات القرن، وكم صالح كتّاب وشعراء الشعر بالفلسفة كحال الفيلسوفة الإسبانية ماريا ثامبرانو، أملاً بالعودة إلى ماهية الشعر في أنه موقف من الذات ورؤيا للعالم، لكننا مع البرتغالي كروش والذي ينهي روايته وعلى لسان بطلته الطفلة/ الرقم بالقول: (إن أبيات الشعر تحرر الأشياء، وإننا حين ندرك شاعرية الحجر، فإننا نحرره من تحجره، ننقذ كل شيء بالجمال، ننقذ كل شيء بالشعر)، فالشعر هو المنقذ والخلاص وهو سادن الجمال، وبذلك يستبطن مقاومة على نحو خاص, هذا إذا انطلقنا أبعد مما يقال عن وظيفة الشعر في الأزمنة المختلفة ومعه لن يُحسم الجدل حول أنواعه وطبيعته الفنية، بل حول خطاب الشكل الذي استغرق الأوقات والأدمغة، وأهرق من الحبر الكثير الكثير، ذلك أن الشعر مازال هو التحدي الكبير، بوصفه حامل الأسئلة لا بوصفه صاحب الأجوبة، وبوصفه سيد القلق والمكابدة أكثر منه محاججة في الأشكال التي (برأينا) تولدها طبيعة التجربة الشعرية وقيم الثقافة بمعناها الشامل.
هل ما زلنا بحاجة إلى الشعر؟، سؤال سوف يتعدد إلى أسئلة إضافية لا يبرره -على الأرجح- ذلك الكم الكثيف من النصوص، وكأنها سواقي فاضت من نهر الشعر الكبير، أكثر منها روافد صافية، ولا يبرره كذلك ذلك التدفق أملاً بالتقاط اللحظة وتوسل استشرافها، ذلك يعني أن الحديث عن النوع المختمر والمتقد والذي يجهر بثقافة التعدد والثراء والعمق والخصوبة والسعة المعرفية، سيظل رهاناً، لن يكون خاسراً إذا كانت طبيعة المغامرة الشعرية هي تراكم الوعي، وفطنته لأن ينجز وعيه، فما زالت مهمة الشاعر لا سيما في هذه الأزمنة، كمن يذهب إلى نداء قصي، للروح فيه أن تتجلى وفي خفائها وتجليها يكتب الشعر حروفه/ الضوء ليكون أكبر من حاجة بعينها، وأبعد في مغامرة اللغة والتخوم والأقاصي.
إذ ليس الرهان على اللغة وشاعريتها فحسب، بل هو الرهان على ممكنات جمالية تذهب بنا إلى غير أفق للدهشة، وفتنة المتخيل والتقاط نثر الحياة المعاصرة بترجيع المعرفة لا ضروب الإنشاء وتوثين الشكل، وليس استظهاراً في المجزوءات تحت مسوغات النص، أو النصوصية كما جرى التنظير لها، ذلك أن النص أرفع شأناً من اختزاله بوصفه أيضاً وكما وقر في الدراسات أعلى سلطة في مؤسسة الكتابة، وعلى سبيل التندر ثمة من قال إن النص المفتوح –مثالاً- (هو الذي يقول كل شيء ولا يقول شيء البتة)؟!.
أحمد علي هلال