ثقافة

رحل سميح القاسم كما ترحل البيارق وقوفاً وعالياً

يقول الشاعر خالد أبو خالد في تصريحه للبعث  لدى سماعه خبر رحيل سميح القاسم: هناك اثنان لا يموتان: الشهيد والشاعر، فكلاهما يتمظهران بالموت، أما نحن فنتمظهر بالبكاء أو الحزن، مبيناً أننا نعزي أنفسنا برحيل هذا الشاعر الكبير المقاوم الذي كان شاعراً قومياً عربياً بامتياز، وشاعراً عربياً فلسطينياً بامتياز أيضاً، وشاعر مقاومة على امتداد عمره الطويل..فهنيئاً لسميح القاسم لأنه حسم علاقته مع الأرض في فلسطين، وأنه يرحل الآن في ذروة عطائه وعطاء شعبنا في مقاومته للعدوان الصهيوني على فلسطين من جنوبها غزة إلى شمالها جنوب لبنان، مشيراً إلى أن القاسم أورثنا كما أورث أجيالاً عديدة من الناس روح مقاومة لا تموت، فالشاعر الذي لا يموت يخلف لنا روحاً لا تموت أيضاً.

أما حمزة برقاوي أمين سر الأمانة العامة للكتاب والصحفيين الفلسطينيين فيؤكد أن سميح القاسم شاعر مقاوم بقي مخلصاً لشاعريته ومقاومته، والجميع يقدِّر مواقفه الشجاعة التي طالما غنّى من خلالها للمقاومة والصمود وتصدّي شعبنا الفلسطيني للاحتلال الصهيوني، مبيناً أنه مشى على الجمر طويلاً، وفي الوقت نفسه كان يردد باستمرار أن الصهاينة في نهاية الأمر لا يملكون أية شرعية على أرض فلسطين، وأنهم مارسوا دائماً ما يؤكد على صفتهم بأنهم مغتصبون يشعرون بالتفوق ويمارسون العنصرية والإبادة كما عرفناها عند العنصريين الأوائل، مروراً بالنازية والفاشية.
ويرى برقاوي أن سميح القاسم عندما يرحل يفتقد الفلسطيني ليس شاعراً وإنما منارة من تلك المنارات التي بقيت مشتعلة تضيء الطريق نحو المقاومة، ولذلك استحق عن جدارة لقب “شاعر المقاومة.
يرحل واقفاً
بعد سماع خبر رحيل القاسم يقول د.حسن حميد  في تصريحه للبعث: ما أوجع الخبر، وما أكبر المعنى، وما أعظم الخسارة، وما أجلّ الحدث..رحل الشاعر الفارس، الثبت، الواقف أبدأً حتى داخل زنازين العنصرية الصهيونية المتوحشة.. رحل فارس الشعر، والتاريخ، والوطنية..رحل سميح القاسم المنادي بصوته العالي:
يا عدو الشمس سنقاوم سنقاوم سنقاوم..موضحاً أن القاسم شبت وطنيته كالنيران طفلاً وهو يرى الطغاة وهم يحيطون بفلسطين، يغتصبون أرضها وتاريخها، وقراها، وبيوتها، ويومها، ومستقبلها..فنادى بافتكاكها شبراً شبراً، ودرباً درباً، وفكرة فكرة، وليمونة ليمونة، فشبت قصيدته فوق مقاعد الدراسة، وداخل زنازين المعتقلات التي عرفها جميعاً، فكان وهو الذي رحل واقفاً مدينة مقاومة بقصيدته، وكان خندقاً بوعيه التاريخي، وقلعة في صموده وثباته أمام كل محاولات التدجين، والإغراء والإمالة..بقي دربه واحداً بصفة واحدة مزدوجة الطول والمقاومة، من أجل الوصول إلى حبيبة واحدة مؤبدة في الحضور والمكانة والعمران والجمال.. هي فلسطين!
ويشير د. حميد أن سميح القاسم هو ونفر من رفاقه الشعراء والأدباء، من أوجد مدونة المقاومة الفلسطينية لتصير الكتاب الذهبي الذي تقرأ فيه أسماء المدن والقرى والبطولات والأحداث والمواقع و..و..وأسماء الشهداء..! وهو وعبر القصيدة المنارة “القصيدة الدم”، القصيدة الموقف حقب لتاريخ البسالة الفلسطينية خلال زمن الاحتلال! وعبر قصيدته المزلزلة، كان المغني الذي لم تعرف لهاته من نشيد سوى: بلادي بلادي!. وهو وعبر قصيدته لم تعرف خطاه سوى أرض العرب من الماء إلى الماء! مبيناً د. حميد أيضاً أن القاسم، وعبر رواياته التي ماشت روح إبداعه في القصيدة، فضح أيضاً دموية الصهاينة وتوحشهم وإيغالهم في الدم الفلسطيني، وأن روايته “الصورة الأخيرة في الألبوم” هزت المجتمع العسكري الإسرائيلي وقد آلت إلى سؤال حارق فحواه: إلى أين تمضون أيها الصهاينة وقد أجريتم الدم الفلسطيني أنهاراً؟! أية عاقبة تنتظرون؟! وأي تاريخ أسود تكتبون؟!
ويبين د. حميد أن سيد المدن الثلاث: الشعر، والتاريخ، والوطنية رحل تاركاً لنا أضخم مدونة عرفها الأدب الفلسطيني.. هي مدونة الشعر الصافي، والتاريخ النبيل، والوطنية السامية.
وختم د. حميد كلامه قائلاً: صحيح أن الشاعر يرحل.. لكن شاعراً مثل سميح القاسم يرحل كما ترحل البيارق وقوفا، وعاليا، وسط الهواء رفيفاً وبأجمل الألوان وأزهاها.!
الرحيل الفادح في الزمن المختلف
ويرى الناقد أحمد هلال في رحيل القاسم العلامة الشعرية المتحققة في المشهد الإبداعي العربي والفلسطيني الكثير من الدلالات التي تنفتح على أفق واسع لما حققته قصيدته في سيرورة الأدب الفلسطيني المقاوم وحركة الروح الفلسطينية والعربية الناهضة، مبيناً أن القاسم يرحل اليوم مكللاً بالأوسمة الوطنية في لحظة فارقة وهو المقاوم الذي لم يستنفد خطابه الشعريّ من استدعاء تلك الجدلية الأثيرة “القصيدة والشاعر والوطن”.
ولأن القاسم –كما يشير هلال- كان سليل نسق شعريّ وطنيّ لم يتبدىء فقط بأبي سلمى وإبراهيم طوقان ومحمود درويش وسواهم فحسب بل كان امتداد لذاكرة وطنية مديدة، امتداد لسياق يحتفي بالشعر المقاوم بنسيجه الفكريّ والجماليّ ليشتق القاسم في مسيرته الشعرية الإنسانيّ والوطنيّ، موضحاً أن صاحب القصيدة “الجماهيرية” أطل على زمن مفتوح من راهن ضيق لينتج عبر ما أنجز ثنائية الأرض والمقاومة ليحتفي باليوميات الفلسطينية والعربية المقاومة، فكثيراً ما يستوقفنا السؤال الفادح عن جمالية المقاومة وجمالية الدفاع عن وطن مغتصَب، وهنا –كما يبين هلال- لدى القاسم ثمة ما يستنهض الذاكرة الجمعية ويدلف إلى أبواب التاريخ الشعريّ ليكون ضمير المتكلم باسم قضية لا تُنسى ولا تذهب إلى النسيان، فظلّ القاسم في كل سيروراته الشعرية من الوطنيّ إلى القوميّ إلى الإنسانيّ محوِّلاً قصائده إلى ذاكرة وطنية.
ويختم هلال كلامه أن الرحيل لا ينتقص من شأن شاعر لم يشغله الموت كثيراً ولم يخفه كثيراً بل تنبأ به وتجاوزه ليعلن أن ثمة حياة تبثها جمالية المقاومة ولم تنفصل تلك العلاقة بين القصيدة وفلسطين اللتين ظلتا حاضرتين بامتياز بمن حلّق بقصائده القومية العربية وهو يهتف بأرض الشام: “تقدموا” القصيدة العلاّمة التي قرأت المرحلة واستشرفتها وأنتجت الوعي بقصيدته في ذاكرة الجمهور لتظلّ كما هو حارسة الحلم وسادنة النار الطاهرة.
سيترك فراغاً طويلاً
ويشير الشاعر صالح هواري إلى أن رحيل سميح القاسم وهو الشاعر الكبير الذي حمل لقب “شاعر المقاومة”عن جدارة خسارة كبيرة للشعب العربي بشكل عام والفلسطيني بشكل خاص لتكون الخسارة الأكبر لمعشر الشعراء وهو المبدع الذي استقطب اهتمام الجميع بمواقفه وشعره الذي وصلَنا من الأرض المحتلة، منوِّهاً إلى أن سميح القاسم ومحمود درويش كانا شاعرين متلازمين في مضمار المقاومة، موضحاً أن القاسم الشاعر كان يجمع بين القصيدة الخليلية والتفعيلة، وفي كلاهما أبدى قدرته الفنية على الصياغة اللغوية فحفرت قصائده في وجدان الكبير والصغير لأنه أوصلها بصيغتها الشعورية المؤثرة الصادقة التي تدلّ على أن الفلسطينيّ في الأرض الممتدة متشبث بأرضه ولن يتنازل عن حبة تراب منها، وهذا ما عبّر عنه القاسم في كل كتاباته ومواقفه، مؤكداً هواري أن رحيل القاسم سيترك فراغاً هائلاً في حياتنا الأدبية وهو لن يموت لأنه سيبقى خالداً في قلوب الجميع وستبقى آثاره تزيّن خزائن أدبنا العربيّ.
في موكب الرحيل
وفي موكب الرحيل يقول الكاتب والقاص عدنان كنفاني في بوحه للبعث والمناسبة أليمة هي رحيل سميح القاسم:
فارس الكلمة والموقف آثر أن يترجّل، أن ينزل عن صهوة التعب، أن يغادر إلى حيث السابقين من رجالات فلسطين العظماء، ولذلك أقول لك:
يا صديقي المتعَب، كم لك في مشوار الحياة مواقف، وكم تربّينا على صعقة بوحك فكنت صوتاً للوطن والأرض والذاكرة، دوّنتَ وجعَنا فنبتَ تصميماً أكثر على المضيّ في طريق النضال والمقاومة حتى نقطف النصر الذي كنتَ دائماً تشتهيه برّاقاً ناصعاً كريماً شامخاً..
أيها الفارس منتصب القامة، تمشي ونمشي معك. من فلسطين هيأت لك الأرض بيدراً نما فيه إبداعك فأطلقت من جذوة روحك صرخة الوجع، لكنه الوجع الممسك بكل قيم الحياة والأصالة، ولفظت خرافات القديم والاتكال والتمني والترجي، وصلّبت فينا جميعا قيمة التوحّد مع الذات من أجل القضية الكبرى، قضية الوطن، قضيتنا وأصل وجودنا وكبريائنا وشموخنا فكنت الأصيل، وكنت الشاعر، وكنت المعلم.
في ذلك الوقت السابق، يوم كان الفلسطينيون يعيشون تحت سطوة الاحتلال المباشر، والقمع اليومي، وفي فلسطين وعلى ترابها وأرضها وريفها وقراها، أنشأت جريدة العرب لتنطق بلسان الشرفاء، صوتا أثيراً يكرّس الذاكرة والحقيقة، ويحرّض على الصمود والتمسّك بفلسطين الجغرافية، أرضا وسماء وبحرا وبشراً.
رفضت الانحناء، ورفضت المنصب، ورفضت العمالة، فكنت اليساري الشريف، الناطق بلساننا وضميرنا وتمنياتنا. ومهما ذَهَبت بنا الأمنيات لا يمكن أن نفصل بينك وبين فلسطين فقد أعملت التوحّد فيها حتى نخاع العظم، لم يمهلك المرض فعانيت ما عانيت وصمدت،  كنت ألتقي بك في مصر ونتحدث، أحاول أن أخفف عنك سطوة المرض، فأجدك تخفف عني سطوة التشرد والشتات.
سميح القاسم، أيها الشاعر الإنسان المتعب.. آثرت أن تترجّل، وترجّلت.. وداعاً..
عنوان رئيسي للمقاومة
ويوضح القاص والروائي محمد عادل أن القاسم يُعتَبَر من شعراء المقاومة الفلسطينية في وقت مبكر وقد تعرّض طوال حياته للقمع والاعتقال من قبل العدوّ الصهيوني لأن كلمته كانت تشبه القنبلة التي يطلقها في وجه الغاصب المحتل، لذلك كان وسيبقى أحد العناوين الرئيسية للمقاومة وهو من الشعراء الذين أغنوا ثقافة المقاومة في الوطن العربيّ وساهم في تكريس الكلمة المقاتلة في فلسطين والمنطقة العربية، مبينا عادل أن القاسم تميّز بالعنفوان العربيّ فلم يكن شاعر فلسطين فقط وهو الذي آمن بالعروبة وحلم بالوحدة العربية وقد ظلّ حتى لحظاته الأخيرة يمجد الكلمة لأنه كان مؤمناً بأنها أحد العناوين المهمة للمقاومة والصمود .وبقي كما القلّة يحلم بأمة عربية واحدة، خالية من الاستعمار وقوى الشرّ لأنه كان مقتنعاً أن الأمة العربية الموّحدة قادرة على الصمود والمواجهة والعيش بأمن وسلام.
لم يكن الوطن حقيبة سفر
ويتساءل  القاص الفلسطيني أحمد جميل الحسن مَن منا لم يردد قصائد سميح القاسم ويغنّيها. لذلك كان وسيبقى قامة تعلّمت منها أجيال وستتعلم منها أجيال أخرى معنى الصمود والمقاومة وهو الذي لم يترك الوطن الغالي فلسطين ولم يقل وطني حقيبة وأنا مسافر بل بقي متجذراً في أرض فلسطين كما الزيتون، ثابتاً كالسرو، شامخاً كما السنديان.. كان أيقونة وذاكرة وطن، علّمنا الكثير لذلك لم تفقد فلسطين القاسم وهو لم يمت بل سيبقى ذاكرتها القوية التي تسمو في الأعالي.. إن رحيله لا يقل في فجاعته عن رحيل محمود درويش وتوفيق زياد وقامات كبيرة أخرى تركت بصماتها الكبيرة في الأدب العربي، ويأسف لأن هؤلاء لن يعوَّضوا أبداً.
أمينة عباس