ثقافة

د. محمود شاهين: الفن الذي يخرج للناس يجب أن يكون قريباً منهم

بكثير من الهدوء الصامت، والرصانة المحبة وتواضع العارف شقت مسيرة النحات والناقد الفني والأكاديمي السوري د.محمود شاهين طريقها في حقول إبداعية مختلفة وأطياف محلقة على أجنحة الإبداع، فأثرى الثقافة السورية المعاصرة بعطاءات متلونة رصينة بعضها يتوسد رفوف المكتبات أو يتسلق جدران الحجر والصالونات أو ينهض في فراغاتها وبعضها الآخر تحتضنه حدائق وساحات المدن السورية، والمعرض الفني الذي تحتضنه صالة “آرت هاوس” في هذه الأيام هو ورقة شاهين الجديدة في فصول الفن الجميل، حيث التقته “البعث” للوقوف على تجربته النحتية والنقدية والأكاديمية، وكذلك على معرضه الحالي في صالة “آرت هاوس” الذي قال عنه: يضم المعرض 36 منحوتة منفذة من البرونز والخشب والبوليستر والخزف والحجر الصناعي وموضوعها الرئيسي هو المرأة في حالاتها المختلفة، فهي الرمز الأساسي للحياة وصانعتها وتختزل أهم القيم النبيلة في الحياة، مشيراً أن المعرض مستمر حتى 19 من الشهر الجاري.
جمالية وانسجام
ويتقصد شاهين عدم منح معرضه اسماً، تماماً كما لا يعطي أياً من أعماله أسماءً لكي لا يقيد مخيلة المتلقي، ويسعى في معرضه إلى مواكبة الموضوع ووسائل التعبير عنه من خلال إخضاع التقنيات والخامات والمواد للتعبير بشكل مناسب عن المضمون موضحاً: عكست كل حالة من حالات المرأة كالانطواء والانطلاق والانتظار وغيرها بالصيغة النحتية المناسبة، وحاولت الاستفادة من خواص الخامات والمواد لإظهار هذه الحالات، فلكل مادة وخامة معالجات تناسبها وهذا أمر يجب أن ينتبه إليه النحات.
واشتغل الفنان شاهين خلال مسيرته الفنية على مواد وخامات فن النحت كافة لكنه توقف-كما يوضح- عند خامتي الخشب والحجر الطبيعيتين، ففي الأولى تشارك مع الطبيعة في انجاز المنحوتة والكشف عن قيمها التشكيلية والتعبيرية، وفي الخامة الثانية استنهض الجماليات البصرية للجسد الإنساني العاري ولاسيما الأنثوي، حيث تنطلق منحوتاته من أساس واقعي تعبيري، لكنه لا يبقيها في حدود الشكل وإنما يتواكب فيها الشكل والمضمون، والحالة التعبيرية تنعكس بوضوح على كتلتها ووضعيتها وطريقة بنائها وملامس سطوحها، وهي بشكل عام تلتزم الواقعية الأكاديمية ولكنها مختزلة وخالية من الثرثرة الشكلية ضمن تكوين معماري مستقر ومدروس.

الفنان الناقد
ويرى شاهين أن الفن بشكل عام هو موهبة أو استعداد فطري تنضجه وتنميه وتبلوره جملة من المعارف النظرية والخبرات العملية، التي تتكامل لتشكل في النهاية شخصية الفنان المحتاج دوماً للمزيد من الثقافة البصرية لتغذية منتجه الفني بالجديد، وميزة الفنان الناقد أن مهمته النقدية تحرضه وتدفعه لمتابعة نتاج الفنانين ودراستها وتحليلها، إضافة لمتابعته لكل ما يصدر من دراسات وكتب فنية وهذا يشكل روافد تغذي ثقافته النظرية والبصرية، وتجعله على تماس مع حركة الحياة التي على الفن أن يكون لصيقا بها، مشيراً إلى أن الإشكالية الوحيدة التي تواجه الفنان الناقد هي كيف يطبق الروائز التي قاس بها أعمال الآخرين على أعماله بنفس الموضوعية والتجرد؟ وهنا عليه أن يوازن بين شخصية الناقد والفنان فيه.
وحول غلبة الرسم والتصوير على فن النحت في غالبية المعارض يؤكد شاهين بأن هذه الحالة لا تطول التشكيل السوري المعاصر فقط وإنما تنسحب على التشكيل العربي والعالمي، وهذا يعود لعدة أسباب أهمها أن النحت يتطلب موهبة بارزة وقدرات جسدية وخامات وأدوات، ومكاناً مناسباً مجهزاً بمتطلبات إنجاز المنحوتة وهذا مكلف مادياً وليس بمقدور غالبية النحاتين تأمينه، مما يجعلهم يشيحون عنه نحو فنون أخرى يضاف إلى ذلك استمرار مفهوم (الصنم) وربطه بالمنحوتة لتكريس التخلف والجهل، أما فيما يخص لجوء النحاتين إلى اعتماد الصياغة النحتية التجريدية في غالبية الملتقيات التي تقام لفن النحت في سورية، واعتمادها على الحجر أو الرخام وسيلة تعبيرية رئيسية فمرد ذلك كما أكد شاهين هو طبيعة هذه الخامة التي لا تتجاوب مع التفاصيل الواقعية الصغيرة، أو قد يعود ذلك لإمكانيات وخبرات النحات المتواضعة في التعامل مع الشكل الواقعي الذي يحتاج لوقت طويل لا يتناسب مع الملتقيات العجلى، منوهاً أن لملتقيات النحت شروطاً وأسساً يجب أن تراعى للحصول على أعمال نحتية نصبية اعتبارية وتزيينية تتوافق مع الخامة والمكان والذائقة.
وعن إشكالية تسويق العمل الفني التشكيلي يقول شاهين بأن المعادلة قائمة على طرفين أساسيين هما المبدع وكيس النقود بغض النظر من يحصل على هذا الكيس، وهنا تكمن المشكلة الحقيقية عند الفنان التشكيلي التي لازال يعاني منها، ويمكن للجهات الراعية للفن أن توفر الشروط الصحيحة للمبدع لممارسة إبداعه بعيداً عن أي استغلال وابتزاز فكري ومادي.
وشدد عميد كلية الفنون الجميلة على ضرورة التوقف عن تشجيع طلاب التخرج في كليات الفنون الجميلة السورية على الاتجاه نحو الأساليب الفنية التجريدية، فأنا شخصياً كنت ومازلت مع اعتماد المعايير الأكاديمية الكلاسيكية والواقعية والسليمة في عملية تأهيل الطلاب، لكي يؤسسوا لتجربتهم الفنية منصة قوية راسخة وصحيحة، ولإنقاذهم من أفخاخ الاتجاهات العابثة والمضيعة للفن وقيمه ودوره في خدمة الحياة، فالتجريد حالة فنية متقدمة تحتاج إلى أساس واقعي أكاديمي راسخ وتجارب طويلة وبحث متواصل، وولوج طالب الفنون إليه باكراً يضيعه ويعطب موهبته ويحوله إلى مجرد ناسخ ومتلق سلبي، لافتاً إلى أن وجود الموهبة والاستعداد الفطري لدى الفنان شرط أساسي لقيامه بفعل الإبداع الفني الحقيقي، وليس بالضرورة أن يكون الأساس الأكاديمي الصحيح مقياساً للإبداع الفني التشكيلي، بدليل وجود عدد من الفنانين التشكيليين غير الدارسين أكاديمياً وإبداعاتهم تتبوأ مراكز متقدمة في فنون العالم، منوهاً إلى أن الإمعان في الغموض والعبث والتجريد يحوّل العمل الفني إلى طلاسم والفن الذي يخرج للناس يجب أن يكون له علاقة بهم، وإلا كانت له انعكاسات سلبية عليهم فعلى الفن تكريس الخير والجمال وحب الحياة.

لوردا فوزي