ثقافة

بول كلوديل.. من الشك إلى الإيمان

“كم يلذَ لي، وأنا على السرير أتأهب للموت، أن أفكَر بأن كتبي لم تضخَم تلك المجموعة المخيفة من الظلام والشك والدنس التي تنكب البشرية، بل إن الذين يقرؤونها لا يجدون فيها إلا بواعث على الإيمان والفرح والرجاء”

كان بول كلوديل قمَة شامخة في عالم الأدب، وشعلة وهَاجة في سماء الفكر، واسماَ كبيراً في دنيا السياسة. هو صخر قُدَّ ليكون أساساً لبناء جبَار، وثورة عارمة أطاحت بحواجز المادة، وتخطَت حدود العقل السجين في دنياه الضيَقة، ودفقت سيول النعمة في أجفان الأدب فروته وأخصبته؛ هو برق دوَى بموسيقى غريبة تآلفت فيها أنغام هذا الكون المتباينة فكانت تسبيحاً على مسمع الخالق، وصلاة حبَ على شفاه الخليقة، ولقد قال: “لم تعطني يا رب فقيراً أعوله، ولا مريضاً أعالجه، ولا خبَزاً أقسَمه، وإنما الكلام الذي يقبل أكثر من الخبز والماء، والنفس التي تذوب في النفس..”.

ولد بول كلوديل في 6 آب 1868، في قرية فيلنوف سير فير من أعمال مقاطعة إيسن في فرنسا. ولم تحضن المولود الجديد أسرة متميزة بالحرص على الدين، متفيَئة ظلال العبادة والتقوى، ولكنها كانت، على ما أعطت للكنيسة من كهنة، لا تقيم للدين وزناً، ولا تخصه بالتقدير، وأصبحت فيما بعد، على حدَ قول الشاعر، “غريبة كل الغرابة عن أمور الإيمان”. ولا عجب، فنحن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث البصائر مبهورة ببريق التقدم، وجذوة الحق تكاد تتوارى في أكفان الضلال، ونور اليقين تغشاه كدرة العقل المتحذلق، وأحاسيس التقوى قد خبت في قلوب كثيرة لم تعد تعمر بها أو تأبه لها. ولن نستغرب، بعد هذا، أن تكون المناولة الأولى لشاعرنا، ولعدد وافر من أترابه، كما صرَح بذلك هو نفسه فيما بعد، “إكليل الممارسات الدينية وخاتمتها”.

انتقل كلوديل إلى باريس مع والدته عام 1882، وانتظم في كلية لويس لوغراند، ثم التحق بمدرسة الحقوق والعلوم السياسية. وكانت نظرته للكون، آنذاك، لا تختلف عن نظرة المتشيعين لـ “الإله الجديد، العقل، ولرسوله، العلم المتفائل، الذي لا يني يجهَز الحملات على المجهول ليفتتحه، وعلى الخفي ليكتشفه، ولن يلبث أن يسقط “الخرافات” عن العرش الذي رفع لها، ويتربع هو سلطاناً على مملكته الواسعة لا ينازعه فيها منازع من وحي، ولا يعانده معاند من كنيسة”. ولكن شبح الموت الراعب كان يلقي ظله الأسود على حياة الشاعر، ويغمرها بقلق مبهم مثير. وما آلم ما خلَفته في نفسه من كاوي الذكر ميتة جدَه، وصراخ ذلك العم، وهو في حشرجة النزاع، يدوَي من أقصى البلدة إلى أقصاها!

كان بول كلوديل يرقب بولس على طريق دمشق.. وكان أرتور رامبو هو الطريق. رامبو ذلك الشاعر الغريب الأطوار الذي عدَه البعض مجدَفاً أثيماً، وحسبه غيرهم “صوفياً آبداً”؛ رامبو، الذي لم تظهر مسيحيته آنذاك، على كل حال، أكيدة راهنة، طلع على كلوديل طلوع البدر المتألق في الليلة الحالكة، فبدَد غشاوة المادَية عن عينيه، وأراه من العالم الأسمى حقيقة كان يجهلها أو يهملها. ذلك سرَ الله في عنايته يلج القلب من حيث لا ندري، ويستعين، في بلوغ مقاصده، بالوسائل التي لا يحلم بها الإنسان. قرأ كلوديل لرامبو “الإشراقات” و”فصل في الجحيم”، وإذا به، كما يقول في إحدى رسائله: “يخرج من ذلك العالم الكريه، عالم تين ورينان وباقي سفَاحي القرن التاسع عشر، من ذلك السجن، ومن تلك الطريقة الآلية المقيتة التي تسيطر عليها نواميس لا تلين لها قسوة.. فينكشف أمامه ما يفوق الطبيعة..”. وسنسمعه فيما بعد يتغنى بانفلاته هذا قائلاً: “كن مباركاً يا إلهي.. لأنك أنقذتني من حوزة الأصنام، وجعلتني لا أعبد إلاك، محوَلاً وجهي عن إيزيس وأوزريس، وعن عبادة العدالة، أو الرقي، أو الحقيقة، أو الربوبية، أو الإنسانية، أو النواميس الطبيعية، أو الفن، أو الجمال”.

وأعدَته قراءة رامبو للإشراق الأسمى في كنيسة نوتر دام دو باري، بين خفوق أنغام العبادة، وحفيف أجنحة الملائكة. ولا يسعنا، في هذا الموقف العلوي، إلا أن نفسح له المجال في وصف هذا الحدث الخطير. قال: “ذاك هو الولد التاعس الذي جاء كنيسة نوتردام دو باري، في 25 من كانون الأول 1886، ليحضر طقوس الميلاد. كنت إذ ذاك قد بدأت أتعاطى الكتابة، فخيَل إليَ أني واجد في الحفلات الكاثوليكية ما يحفز قريحة هواة الفن المترفعين، ويكون مادَة لبعض محاولاتهم الصغيرة!”.

حضرت القداس الكبير وأنا على تلك الحالة، وفي زحمة شعب يضايقني، فما وجدت كبير لذة. ثم عدت لأحضر صلاة الغروب إذ لم ألق أفضل من ذلك شغلاً (…). في لحظة واحدة صدع قلبي فآمنت! آمنت، ورافق إيماني قوة في الاعتناق، وثورة في جميع ذاتي، وصلابة في الاقتناع، ويقين لا يبقي موضعاً لشك من أي نوع كان، حتى لم يعد سبيل، منذئذ، لكتاب أو لجدل منطقي، أو لطارئ من طوارئ الحياة المتقلبة، إلى زعزعة إيماني، بل إلى مسَه لا غير. وشعرت فجأة شعوراً مرهفاً ببراءة الله وطفولته السرمدية؛ وهذا الشعور كان كشفاً يسمو على الوصف. وإذا ما حاولت، كما فعلت غير مرَة، أن استعيد حقيقة الدقائق الأولى التي عقبت تلك اللحظة العجيبة، اجتمعت لي العناصر الآتية – مع أنها لم تكن في الواقع سوى ومضة واحدة، وسلاح واحد نفذت به العناية الإلهية إلى قلب ولد مسكين يائس، وفتحت لها فيه طريقاً- “آه! ما أعظمهم غبطة أولئك الذين يؤمنون! ولكن لو صح فقط!.. إنما هو صحيح! إن الله موجود وهو هنا؛ إنه شخص، إنه كائن له ذاته بقدر مالي! وهو يحبني، وهو يدعوني”.

واندفقت الدموع والزفرات.. وزدات في تأثري أنشودة Adeste الرقيقة أكثر ما تكون الرقة. إنه تأثر مستعذب جداً، لكنه ممتزج بعاطفة الهلع، بل أكاد أقول بعاطفة الهول، فإن اعتقادي الفلسفي ليث كاملاً، وقد تركه الله في احتقار حيث كان؛ ولم يبد لي فيه موضع لتبديل وتعديل، فالدين الكاثوليكي مابرح عندي مجمع أَقاصيص خرقاء لا يرضى عنها العقل، والكهنة والمؤمنون مازالوا يثيرون فيَ تلك الكراهية ذاتها التي تمتد حتى البغض والقرف؛ واستمر صرح آرائي ومعارفي قائماً من غير أن تبدو لي فيه ثقة أو ثغرة؛ وكل ما حدث أني خرجت منه، وأن كائناً جديداً هائلاً تبدى ليَ في مطالب ترهق كاهل شاب وفنَان نظيري، ولم أجد سبيلاً البتة إلى التوفيق بينه وبين أقلَ شيء مما يكتنفني. وإن شئت التمثيل فالتشبيه الأوحد الذي أستطيع به وصف حالتي في وسط هذا الاختلاط الجارف إنما هو حالة إنسان ينزع من إهابه دفعة واحدة، ويدسَ في جسد غريب وسط عالم مجهول.. وتعاقبت أعوام أربعة تخضبت بدم النضال الداخلي العنيف، وكانت شديدة الوطأة على الشاعر، وما حلَ يوم الـ 25 من كانون الثاني 1890 إلا وهو على أقدام الكاهن يقرَ بذنوبه ويقبل الحلَ والغفران. وإذا بكلوديل في غمرة هذه الأحداث يولد ميلاداً جديداً لحياة الروح وحياة الفن. وراح يقرأ بإمعان وشغف ذلك الكتاب القديم الجديد الذي شعَت منه أنوار الوحي، والذي أضحى نجيَ خلواته ورفيق حله وترحاله. وبدأ الكون لعينيه مصطبغاً بألوان جديدة رسمت على صفحاتها صورة الخالق في سامي جماله وقصيَ حكمته. وصاحب أرسطو وتوما الأكويني والآباء القديسين من أغسطين إلى بوسويه دون أن يفلت من عصره ويجهل علومه ومعارفه. فكانت له في الأدب روائع أجلسته على كرسيَ الخلود الأدبي في الندوة الفرنسية، نذكر منها “الأناشيد الخمس الكبرى” (1904/1910) – شعر، و”أناشيد الحرب”، و”أوراق القديسين”، و”الرأس الذهبي”، و”بشارة مريم”، و”الخبز اليابس”، و”الحذاء الأطلسي”، و”كتاب كريستوف كولومب”..

ما أدب كلوديل سوى مجامر بخور وغناء تسبيح وصلاة عبادة وثقة وحبَ واستسلام. هو كوَة أطل منها عالم ما فوق الطبيعة على الأدب فانعكست فيه أنواره انعكاساً أخَاذاً. وكأني بكلوديل “أطلساً” جديداً يروم أن يرفع الكون كله بين يديه، جماده وحيوانه وإنسانه، ليقدم للخالق محرقة طيبة الشذا على مذبح الأدب والفن. ولا عجب بعد هذا أن يسمع النقَاد في أنغام قيثارته الغنائية الشاملة صدى داود وأخيل ودانتي وشكسبير.

وفي يوم الأربعاء 23 شباط.. فاضت روح ذلك الأديب الكبير والمسيحي الصميم، فكان لمعناه رنَة أسى بليغ في عالم الأدب والمسرح، وفي العواصم التي مرَ بها، وقلوب كثيرين ممن عرفوه وأحبَوه وقدَروا فضله ومواهبه. وكأني به يردَد في آخر لحظة ما وضعه من كلمات على فم “بياتا” في الغنائية المثلثة الأصوات: “أطفئ هذا النور! أطفئ هذا النور الذي يتيح لي أن أرى غير وجهك!”.

د. عبد الهادي صالحة