اقتصاد

رؤيا في تنمية الثروة الحيوانية

لعقود قريبة مضت، كان من المستحيل خلوّ أسرة ريفية من وجود تربية حيوانية لديها، والأسرة التي لم يكن لديها قدرة مادية لامتلاك حيوانات كانت تعمد إلى شراكة مع آخرين.
ولإحساسنا بأهمية الثروة الحيوانية (للمواطن والوطن)، نسرد القصة الآتية -عل وعسى يكون فيها عبرة- التي تقول: سبق أن عمد أحد الشيوخ الميسورين –في العقود الغابرة- إلى شراء عشرات إناث الثروة الحيوانية بالتتابع، وأعطاها دون مقابل -تحت اسم شراكة- لبعض أقربائه وجيرانه ومعارفه، من الذين ليست لديهم قدرة شراء بقرة أو غنمة أو عنزة، حيث كان يعطي أنثى ماشية أو أكثر لأحدهم، ويتَّفق معه على حصة من مواليدها، ولاحقاً يعطي حصته من الإناث مع هذا الشريك إلى شريك آخر، أي دون أن يأخذ شيئاً لنفسه، حتى أصبح لديه مئات من الشركاء في محافظته، وبغية تحقيق المزيد من تناسل الثروة الحيوانية، أوصى بعدم أكل لحم الإناث وكان يذبح حصته من الذكور ويوزع لحمها على الفقراء، وخاصة في مناسبات الأعياد، وبقي على هذه الحالة حتى شارف على الموت، عندئذ جمع أولاده وآخرين كشهود عليهم، وقال لهم: كونوا على علم أنني أنا أسامح كل شركائي بما لديهم من حصتي من الماشية، وأطلب منكم عدم مطالبة أحد بذلك، إذ كان هذا مقصدي من كل الشراكات التي عقدتها، رأفة مني بحال أولئك الذي شاركتهم حينئذ، ولقناعتي بأهمية تنمية الثروة الحيوانية.
حدث نسأل في ضوئه: أين المحسنون والميسورون ورجال الأعمال هذه الأيام على كثرتهم، من عمل يماثل عمل ذاك الشيخ منذ عقود عديدة خلت، بل أين اهتمام العاطلين عن العمل في هذه الأيام، من البحث عن مثل هذه الشراكات والاستعداد لقبولها حال عرضها عليهم.
للثروة الحيوانية أهميتها الكبرى للوطن ولمواطنيه، وتجذير الإنتاج العضوي الزراعي الذي تعمل له وزارة الزراعة تشريعاً وتنفيذاً، يستوجب استدراك الانخفاض المشهود في هذه الثروة، قبل الوصول إلى مرحلة الندم، ونظراً لأهمية تنمية الثروة الحيوانية في إنتاج السماد العضوي المطلوب، أرى أن دفع هذه التنمية يتحقق عبر عدة مناحٍ، أهمها:
أولاً: وجوب قيام المزيد من النشاط الفردي، وعبر المجتمع الأهلي، للحفاظ على ما تبقى من قطعان مواشي البادية، والتأسيس لوجود قطعان جديدة، والتعاون مع المنظمات الحزبية والشعبية والنقابية والنقابات، لتوجيه العاطلين عن العمل في الريف، باتجاه تشجيع تربية الماشية بأنواعها، وتنشيط ودعم المزيد من الاستثمارات الصغيرة والكبيرة في ذلك، وأن يتم العمل على توجيه إنفاق قسم كبير من حالات الإحسان الكثيرة (التي تشهدها مجتمعاتنا، على تعدّد وتنوّع وتوزّع فاعليها) لغاية منح بعض العاطلين عن العمل -موجَّهين ومقتنعين بذلك- وحدة أو أكثر من نوع أو أكثر من الماشية، بغية التخفيف من حجم البطالة والنهوض في تنمية الثروة الحيوانية، نظراً لأهميتها ودورها في تجذير الإنتاج العضوي الزراعي، الذي ينعكس بدوره على الإنتاج العضوي في كثير من الصناعات الغذائية والدوائية.
ثانياً: على الجهات العامة والخاصة المهتمة بالتنمية بشكل عام، وخاصة المصارف، والصناديق المعنية بالتنمية التي تم إحداثها خلال السنوات الأخيرة، أن تعمل على تشجيع تنمية الثروة الحيوانية عبر منح قروض للمربين، بفائدة رمزية جداً، أو دون فائدة كلية (ولو اقتضى الأمر تحميل جزء من هذه الفوائد على القروض الصناعية والتجارية والخدمية والسكنية)، شريطة أن يتم الإشراف الميداني الرسمي المترافق مع إجراءات صارمة -وبتشاركية شعبية-، لضمان استمرارية التزام المربّي، وتمكينه من سداد القرض، والحدّ من استخدام الهبات والقروض لغايات أخرى غير تربية الثروة الحيوانية، وليكن الإشراف الميداني مترافقاً مع إجراءات رسمية صارمة –وخاصة من الجهات المانحة والمقرضة- تدفع في هذا الاتجاه.
ثالثاً: اقتران كل ذلك بتوجيه وتشجيع المربّين والمزارعين لتنمية الزراعات العلفية، واستعادة تنشيط الجمعيات الفلاحية المتعدّدة الأغراض، والتأسيس لإيجاد جهات (فردية – أهلية – منظماتية – حكومية) تتحلى بأخلاقية عالية، مهتمة ومتخصصة في تسويق مستلزمات ومنتجات الثروة الحيوانية، وتأمين الرعاية الطبية المجانية لها، ما يؤمّن تحقُّق دخل يضمن نفقات معيشية مقبولة لدى المربّين، يجذِّر استمرارهم في ذلك.
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية