ثقافة

الوفاء قيمة تصلح للحياة: سندس برهوم في أوَّل مطرها:” غيوم زكريا” لا قويّ في الحبِّ، صدقوني:

– تكون قويَّاً عندما لا تحب، أو حين يكون حبُّك عاديَّاً، يمشي الحيطَ الحيطَ، ويا ربِّي الستر.
ـ فماذا يفعل بنا؟
يجرِّدُنا من أقنعتنا، فنقف عراةً أمام وجه الشمس، يُظهِر ضعفَنا الإنسانيَّ بجلاء، فإذا نحن بشر مساكين، أودت بنا التربية القاسيةُ، وتقاليدُ مجتمعِنا الباليةِ مهاويها السحيقةَ.
بلا تجنيس أدبيٍّ، ولا دار نشر، أو سنة طبع، تخلِّد سندس برهوم بداياتِ حالة حبٍّ معقّدة، فهذا العاشق محرجٌ من حاله: أصابع قدميه الملتوية، وعادته: يقضم أظافره طوال الوقت…
لكن من منّا يخلو من حالة غلط في جسمه، أو عادة مزعجة أدمنها غصباً عنه؟

غير أنَّه في الحبِّ تتضخم الأشياء أكثر: “سلطان وجودها في حياته يمور نار هيام في صدره، وهو إنسان طيِّب وابن حلال، يتقوقع على نفسه كذئب حزين، ليأكل أظافره، أو يهرب إلى علبة تبغه، يشعل لفافة، ينظر إليها تحترق كأعصابه…” ص9-11
– ولكن ليس عليه أن تكون أصابعه رائعة كي تحبَّه!
أضيفوا – لو سمحتم – غيرته من فراس أعزَّ صديق لهما معاً، فزكريا ينتقد ظُرف ديمة مع رفاقه كلِّهم بلا استثناء: “يرتجف عندما تبتسم للآخرين، أو تحدِّثهم، وكم يئن قلبه كلَّما نبع في حياتها شابٌّ قد يفكر بها، ويحبُّها”.
– لماذا كلُّ هذا؟
ربَّما لأنَّه يتيم، تربَّى تحت سطوة خالته، زوج أبيه القاسية، فما عرف اتخاذ قرار بنفسه. مع ذلك لا تنسوا الحكمة البليغة: (هكذا هو الحبُّ) فكم تؤثِّر فينا نظرة المحبوبة:
إن استحسنت ما نفعله سُرِّرنا بفرح طفلٍ، أهديت إليه لعبة يحبها، وإلَّا انكفأ على ذاته كتلميذ مذنب نسي كتابة وظيفته البيتية مرتجفاً أمام أستاذ ظالم، قلبه حجر صوان.
“غيوم زكريا” نصٌّ سرديٌّ على مدى سبعين صفحة، قرأته بشغف دفعة واحدة، يتضح فيه التأثر بكتابة السيناريو من خلال رسم المشهديات البصريَّة بتفصيلات مسهبة، وذكر اسم الشخصيَّة المتحدِّثة بعدها تضع الكاتبة نقطتين فوق بعضهما، لتورد الحوار.
“حضَّر زكريا الفطرَ، اقتطع خبزةً بحجم راحة الكفِّ، غطاها بورقة خسٍّ صغيرة وعرقي بقدونس، مثلهما نعنع وبقلة وطرخون، أضاف قطعة من الجبنة، وملعقةَ لَبَنَة، أخرى من الفطر، وقطعتي مخلل خيار، رشة فلفل وملح، وزيتونة، نزع لبَّها بأسنانه، قبَّلها وقدَّمها لها، عاد واقتطع خبزةً، فرشها بالزعتر البري والرشاد، مع ملعقة من مسبَّحة جاره” أبو جمال” ثمَّ رشَّةَ فلفل حارٍّ، وعصرة ليمون، طواها وزيَّنها بورقة حبق، واقترب من ديمة، فتح فمها، وأقحمها دفعة واحدة. لكنَّها لم تستطع لملمتها، فاقترب واقتطع بفمه ما تبقى منها خارج فمها مكملاً وجبته الشهيَّة بقبلة مخضَّبة بالزعتر البري والليمون، لتتالى لقماته وقبله مع ضحكها المتقطِّع المفعم بالشبع:
ديمة: أحبُّك زكريا، لا أذكر أنَّي أكلت في حياتي لقمة بهذا الطعم.
زكريا: ولا أذكر أنَّي أطعمت أحداً بكلِّ هذا الحبِّ، أحبُّك. ص39 – 40
أتساءل: هل ما يشدُّنا إلى نصٍّ سرديٍّ مثل “غيوم زكريا” هذه التفصيلات الحميميَّة في حالة خاصَّة من حبِّ رجل لامرأة (تحبُّه بجنون، بل تموت فيه) لكنَّه يخشى أن يفقدها؟
إذاً يتنافى الحبُّ مع اليقين: أن تطوِّب قلب محبوبتك على اسمك إلى الأبد حالة تملُّك. أمَّا أن تخشى كلَّ لحظة افتقادها، ما يجعلك تحرص عليها مثل روحك، وأن تكون أفضل في معاملتها مخافة الهجر الأليم، ما يعطي المحبَّ صفاته المميَّزة: رهيفاً، حسَّاساً، ومعذَّباً أيضاً، تبرق عيناه طوال الوقت كلَّما تذكَّر محبوبته (وأنَّى له ينساها) فتتأجَّج مشاعره، يضجُّ قلبه بالنبض المتوثِّب محلِّقاً كالطير في عالم من سحر، اسمه ملكوت الحب.
– أيُّها الرجل أن تسعى مدى عمرك لإسعاد محبوبتك، فتجعلها تضحك من أعماقها، عندئذ يرقص قلبك، وتشعر بنفسك جديراً بالحياة. تؤكد ديمة:
– زكريا قادر على إضحاكي حتَّى لو كنت ميِّتةً ص63
تُرى خُلق الرجل لإسعاد المرأة، والمرأة لإيقاظ إنسانيته؟
يحكى أنَّ آدم كان يسابق الحيواناتِ البريَّةَ من حواليه، ويضاهيها شراسةً إلى أن ألقمته الآنسة حواء تفاحة المعرفة والأنسنة!
وليس أجملَ من أخذ المحبوبة شهادة تقدير من حبيبها، فعلى الغلاف الأخير دوَّن نضال سيجري: “ما يحيط بي يجعلني حزيناً، جسدي يهرب منِّي. لكن ثمَّة شيء يجعلني أكثر فرحاً، وأنا أقرأ نصَّاً أدبيَّاً مختلفاً”.
وفي زاوية ورقة الدفتر المسطَّرة ملحوظة صغيرة تقول:
– غداً جرعة الكيماوي بحبِّك.
“غيوم زكريا” تذكِّرنا بقصص حبٍّ واقعيَّة، لكتَّاب ظلُّوا أوفياء لزوجاتهم، على الرغم من فراق الموت القاسي، كُتّابنا السوريون ياسين رفاعية، ومحمد الماغوط، الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد، كذلك الفنان الإسباني سلفادور دالي الذي صرح بفانتازيته المعهودة:
– عندما تموت غالا سوف آكلها.
وفعلاً لحق بها بعد شهور قليلة ممتنعاً عن الطعام حزناً على فراقها.
قدَّم لهذا النصِّ مخرجنا المبدع الليث حجو في لفتة وفاء مضافة:
– رحل نضال، لكنَّنا نكاية بالموت سنظل نراه على المقعد المجاور، ونحن نحلِّق إلى مكان ما، نسمع صوته على الطرف المقابل لخط الهاتف، وهو يحاول حتَّى اللحظة الأخيرة أن يقنع أبناء أُمِّه بألَّا يكره أحدُهم الآخر، لأنَّ الحبَّ طريق الخلاص الوحيد” ص6
فما أحوجنا في هذا الظرف العصيب الَّذي تمرُّ به بلادنا الحبيبة سوريَّة إلى قصص حبٍّ مثل “غيوم زكريا”، لاسيَّما وقد جاء في الإهداء:” طوبى لمن وجد الطريقة ليبقى الحبُّ ونبقى معاً”…

أيمن الحسن