ثقافة

فـي تجربـتـه الإخـراجـيـة الأولــى فـي سـوريــة المهند حيدر:”حدث في يوم المسرح” ليس عرضاً سياحياً أو وصلة حزن مؤثرة

مقارنةً بتجربته الإخراجية الأولى على صعيد المسرح، والتي قدم فيها مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” باللغة الفرنسية في مدينة نانسي الفرنسية سنة 2005، يؤكد المخرج المهند حيدر في حواره مع البعث أن مسرحيته “حدث في يوم المسرح” والتي تقدم عروضها حالياً على خشبة مسرح القباني، وإن كانت تجربة لها خصوصيتها، لكن المبدأ بالنسبة له في كل أعماله هو دوماً ذاته، وهو الانطلاق من الجمهور لبناء العرض الذي يُقدَّم له.

ويبيّن حيدر أن أي عرض يتغافل عن الجمهور سيكون عرضاً يغنّي وحيداً في البرية، ولذلك عندما بدأ العمل على نص الكاتب وليد إخلاصي “حدث في يوم المسرح” وضع له هدف ملامسة المُشاهد من مختلف المستويات سواء البسيط أو المثقف أو النخبوي أو المختص، ولذلك تمت إعادة صياغة النص الذي يعالج قضية المسرح بما يناسب الزمان والمكان الحاليين بكل ما حدث من تغيرات خلال السنوات الثلاثين التي مضت على كتابة نص إخلاصي، مبيناً أنه تم تفكيك النص إلى نقاطه الأولية ثم تم تنحيته جانباً واعتماد الارتجال في البروفة كوسيلة لإعادة بناء العرض، وهو تكنيك صعب ومرهق ويتطلب ممثلين على قدر كبير من الطاقة والخيال والمقدرات الذهنية والفكرية لا الأدائية والجسدية فقط، وهو ما تميز به، برأي حيدر،  بطلا العمل عمر عنتر وآلاء مصري زادة، مع المساهمة المميزة أيضاً من المخرج المساعد مضر رمضان، وقد تم  ذلك كله ضمن قواعد التزم بها وهي التكثيف الشديد والابتعاد عن الحشو، واللعب على الحالة التي تتقلب بها الشخصيات، فابتعد عن أن يكون بناء الحدث في العرض كلاسيكياً، فلا يتطور الحدث ضمن خط بياني ذي بداية وعقدة وذروة وخاتمة، بل كانت الانقلابات التي تعبِّر عن انكسارات الشخصيات خلال تحولاتها هي الخط البياني المتكسر كما الشخصيات التي تتكشف انكساراتها المخفية ضمن سياق العرض.

لا أميل إلى عروض المونودراما
يستند عرض “حدث في يوم المسرح” إلى نص الكاتب السوري الكبير وليد إخلاصي والذي يحمل العنوان ذاته والمكتوب في مطلع الثمانينيات من القرن الفائت، ويعالج فيه إخلاصي موضوعة المسرح وأهميته عبر نص يرتكز على ممثل وحيد (مونودراما) لشخصية تتواجد على خشبة مسرح في يوم المسرح العالمي لتروي هموم وآلام المسرح، ويوضح  حيدر أنه تم العمل على هذا النص دراماتورجياً، بحيث تم الحفاظ على الفرضية الأساسية، لكن بما يناسب الآن-هنا، أي المكان والزمان الراهنين وما يستدعيان من تساؤلات عن المسرح وأهميته ودوره اليوم في بناء الثقافة والمجتمع، وهو ما فرض تحويل النص من نص مونودراما يرتكز على ممثل وحيد على الخشبة إلى عرض يحتوي على شخصيتين بسيطتَي التفكير والتكوين،  وعميقتي المعنى والواقع، ليتم من خلالهما طرح جدلية المسرح والواقع التي تهدف إلى إثارة الأسئلة في ذهن المُشاهد دون مصادرته عبر طرح إجابات وحلول جاهزة، مؤكداً، حيدر، أنه تم العمل دراتورجياً وإخراجياً بالاعتماد على تقنية الارتجال المدروس، حيث تم وضع مخطط يكوّن أرضية للارتجال، ومن ثم البناء عليه وإعادة البناء حتى الوصول للصيغة الأفضل والأنسب والأكثر اتساقاً للطرح المراد، كما تم التركيز خلال ذلك على بساطة المنطوق والمؤدى بالتوازي مع عمق الدلالة والأسئلة ليكون من السهل الوصول إلى عمق المشاهد المتلقي.. ومع ذلك فالعرض برأيه لا يقدم صورة متشائمة ولا يركن للندب على أمجاد المسرح الغابرة لأنه غير معني بذلك، ولا يريد تقديم عرض سياحي أو وصلة حزن مؤثرة، بل الهدف هو التأكيد على ضرورة المسرح كفعل ثقافي اجتماعي هام قادر على أن يساهم مع بقية الفعاليات الثقافية على التأثير والفعل في المجتمع، فهذا العرض، كما يشير حيدر، يخاطب العقول لا العواطف، ليس عقول المتفرجين فقط بل  عقول القائمين على الفعل الثقافي أيضاً.
ويعترف حيدر أنه لا يميل إلى عروض المونودراما، وإن كان لا يعارضها، فهي لا تنسجم مع توجهه في المسرح، وعلى الرغم من أن المونودراما هي من أقدم أشكال المسرح عند ظهور الممثل الأول والوحيد، لكنها برأيه  لم تستطع أن تتخلص من خطابيتها التي قامت عليها منذ أسخيلوس قبل أكثر من ألفي عام وحتى الآن، هذه الخطابية التي يحاول دوماً الابتعاد عنها في توجهه نحو اللغة الموظفة وذات النبرة غير العالية، بل المعتمدة على البساطة في الشكل والعمق في الدلالة، كما أن تكنيك الممثل في المونودراما برأيه يتطلب أسلوب أداء بعيد عنه لأنه وإن كان يحب تقلّب الحالة لدى الشخصية التي يؤديها الممثل إلا أنه لا يميل إلى الانفعالات الخارجية التي تتطلبها المونودراما بل يركّز على الانفعال الداخلي أكثر.. ولكل ما سبق بالإضافة لأسباب أخرى قام حيدر بتحويل نص “حدث في يوم المسرح” من شكل المونودراما إلى عرض ثنائي الشخصيات، فالشخصية المضافة “زينة” الفتاة المقيمة في المسرح كانت ضرورة أوجدتْها التغيرات التي حدثت خلال الثلاثين سنة التي مرت على كتابة النص الأصلي، مبيناً كذلك أن الشخصية الأخرى “عوض” مدير المنصة في المسرح مختلفة عن الشخصية الأصلية في نص إخلاصي، وهذا برأيه أمر طبيعي لأن المجتمع تغير والمسرح كذلك، وأيضاً طريقة تعاطي المسرح مع الناس والناس مع المسرح.. وهي علاقة جدلية شائكة يجب أن يفهمها المرء قبل الإقدام على تجربة كهذه كي يعرف كيف ينطلق باتجاه الجمهور.

لا أسير مع الدارج
وعن سبب تغريده في “حدث في يوم مسرح” خارج سرب الأزمة في سورية، يشير إلى أنه لا أحد يستطيع إنكار ما يحدث، والجميع يعيشه بكل تفاصيله، وهو يؤمن أن ذلك لا بد وأن يتجلى بشكل تلقائي في كل ما نعمل وننتج، ولكنه في الوقت نفسه ليس مع أن تصادرنا مرحلة ما مهما كانت مأزومة فنتوقف في هذه اللحظة من الزمن ونثبتها بحيث لا نستطيع تجاوزها، مشيراً إلى أن الفن والفكر خلاّقان ولا يمكن حصرهما في موضوع واحد، والحياة أكبر وأوسع من أن نختصرها في موضوع معين مهما كان قاسياً ومؤثراً، كما أنه لا يميل للمتاجرة بالعواطف، فإما أن يقدم عملاً يطرح قضية ويثير أسئلة أو فليمتِّع على الأقل وإما لا، أما أن يسير مع الدارج فهو أمر سهل ومضمون النجاح، ولكن هذه ليست مهمة المسرح الجاد الذي يعتقد أنه ينتمي إليه، فالجدية برأيه هي مبدأ مهم في العمل أمام الذات أولاً ومن ثم أمام الجمهور، وهذه الجدية هي ما قادته لمعالجة فكرة المسرح، والثقافة عموماً من ورائه والنزول بها إلى الناس في الشارع بلغة بسيطة وعميقة في الوقت نفسه، للتأكيد على دور المسرح والثقافة في المجتمع والإنسان وبنائهما لأن الحل لما يحدث اليوم ليس سياسياً واقتصادياً فقط بل ثقافي أيضاً، فالمجتمع مصاب بشروخ خطيرة على صعيد الثقافة لم يعد ينفع التغاضي عنها، لذلك يجب تفعيل كافة الوسائل الثقافية من مسرح وسينما وكتاب وغيره في عملية بناء متكاملة حتى لو استغرقت سنوات طويلة، فالمجتمعات لا تبنى بيوم وليلة ولا تبنى اقتصادياً وسياسياً فقط، بل الأهم كما يشير حيدر هو البناء الثقافي لأنه هو الضامن لبناء مجتمع سليم ومعافى ومتصالح، وهذا لن يحدث إلا إن تم التعامل بجدية مع المسرح وبقية الوسائل الثقافية وتفعيلها لتقوم بدورها الحقيقي، وهذا ما يقوله عرضه المسرحي.

العرض لا يصادر الجمهور
ويرفض حيدر أن يوصف الموضوع الذي اختاره لعرضه بالنخبوية، فعرض “حدث في يوم المسرح” يعود بقضية تحولت من نخبوية إلى الحالة الشعبية التي انطلقت منها، فالمسرح برأيه لا يجب أن يكون نخبوياً وهو كان دوماً شعبياً، ولذلك يلعب العرض المسرحي “حدث في يوم المسرح” على المستويات المختلفة للجمهور، سواء المشاهد البسيط أو المثقف والنخبوي أو حتى المختص المسرحي والقائم على الشأن المسرحي، وكل منهم سيجد ما يعنيه وما يلامسه في العرض وما يحفزه على الفعل في العرض، حتى الكوميديا المتضمنة فيه تمت صياغتها بحيث تلعب على المرجعيات المختلفة للجمهور ليتفاعل معها المشاهدون كلّ بمرجعيته الفكرية والثقافية والاجتماعية، والأهم كما يعتقد حيدر هو ما سيعلق في ذهن كل منهم من أسئلة تأخذه ليبحث عن إجابات عنها، ولذلك فهذا العرض لا يصادر الجمهور فيقدم إليه إجابات جاهزة، بل يهدف إلى إثارة ذهن كلّ منهم في البحث عن إجابات، وهذه العملية ستكون مقياس نجاح العرض إن تمكّن من تحقيقها.

الانطباع الأول للممثل
ومقارنة بالسينما التي عمل بها حيدر مخرجاً يؤكد أن هناك الكثير من الاختلافات في الطريقة الإخراجية ما بين السينما والمسرح، لكن المبدأ  برأيه هو نفسه دوماً، وهو الانطلاق من الجمهور مع مراعاة اختلاف الأدوات الفنية بين المسرح والسينما ليبقى، فالأهم هو آلية التعامل مع الممثل وإدارته، وهذه مسألة لا علاقة لها بالإخراج بالضرورة، لكن إن أتقنها المرء، خصوصاً إذا كان يعتمد مثل حيدر مبدأ التركيز على أداء الممثل كما في عرض “حدث في يوم المسرح” فإن ذلك سيكون الحامل الأساسي للأسلوب الإخراجي، إذ إن الممثل سيكون هو الحامل الرئيسي للعرض، أما في السينما فإن الحامل الأساسي هو الصورة، فبينما يفضِّل حيدر العمل مع الممثل في المسرح على تكنيك الارتجال والهدم والبناء على الفرضية المطروحة وصولاً للمشهدية البصرية والجدلية المرادة على الخشبة، وهو ما يستلزم وقتاً وجهداً كبيراً، فإنه في السينما يفضِّل الانطباع الأول للممثل، ولذلك لا يجري أية بروفات، بل يفضِّل العمل مباشرة أمام الكاميرا لاقتناص الحالة بطزاجتها لدى الممثل.

أمينة عباس