اقتصادتتمات الاولى

خبراء: غياب التنسيق بين الجهات الاقتصادية والمالية كان وراء التضخم وتراجع سعر الصرف

هناك عدة جهات مسؤولة عن صعود سعر صرف القطع الأجنبي مقابل الليرة السورية وفي تذبذبه غير الحميد على الاقتصاد، وثمّة قرارات متناقضة أدّت أيضاً إلى واقع مالي واقتصادي جديد انعكس على سعر الصرف، بالتزامن مع غياب السياسات المالية والنقدية الشاملة، ومن هذه القرارات على سبيل المثال لا الحصر، إيقاف القروض المصرفية، وتدني دعم نشاط الأعمال المتوسطة والصغيرة إلى أدنى مستوى، وتراجع قيمة التحويلات المالية الخارجية، وخروج نسبة لا يُستهان بها من الإيرادات كانت سابقاً رافداً أساسياً للخزينة العامة للدولة، كالنفط والصادرات.
عوامل، دون أدنى شك، ساهمت في تدني سعر صرف الليرة، وباستنزاف كتلة من احتياطياتنا من القطع الأجنبي، لنصل إلى أسئلة تأتي من باب المساءلة حول مدى توفق المصرف المركزي في سياساته النقدية؟، وهل يتحمّل وحده تضخم أسعار صرف العملات الأجنبية بمعدل أربعة أضعاف مقارنة مع عام 2011؟ أم إن البطء في اتخاذ القرارات الاقتصادية والمالية والنقدية التي تؤخذ بتردد وتأتي في أغلب الأحيان متأخرة، وتنتج رد فعل عكسياً، كان لها دور في تراجع قيمة الليرة، وبالتالي تضخماً في أسعار السلع والخدمات؟!.
منظور خاص
في بداية الأزمة تبيّن أن كل جهة عامة أصدرت قرارات وتعاميم من منظورها الخاص، فخرجت بإجراءات مؤقتة لضمان استمرار عجلة العمل اليومية وليست المستقبلية التي تكون على المديين المتوسط والقريب، وذلك من وجهة نظر نائب حاكم مصرف سورية المركزي الدكتور حازم قرفول، الذي خرج بنتيجة مفادها أن بلوغنا معدلات تضخمية عالية في أسعار كل السلع (القطع الأجنبي من هذه السلع)، كان بسبب تداخل السياسات الاقتصادية، وغياب الرؤية الشاملة للاقتصاد وحاجياته.
كما أن تراجع سعر قيمة الليرة ناتج عن تعجل بعض الجهات في إصدار قرارات انعكست على قدرتها الشرائية، حسب تعبير نائب حاكم المصرف، إضافة إلى تكليف “المركزي” بمهام أكبر من مقدراته، لذا يعتقد قرفول أن سياساته لم تكن تتماشى مع دوره في بعض الأحيان؟!.، وهو اعتراف صحيح وفيه شفافية عالية، تلخص ما وصل إليه المآل في سوق الصرف.
دون أن يغفل نائب الحاكم العاملين الأمني والسياسي ومنعكساتهما على الاقتصاد وبالتالي على قيمة الليرة، المرتبط ثباتها على مستويات محددة بمدى قيام الجهات كافة بدورها المناط بها، كاشفاً عن تعطل مفاصل إدارية مهمة في ظروف استثنائية كان يفترض أن تعمل، وهذا ما جعل القائمين على المصرف المركزي العمل بفعل ورد الفعل، وفي بعض الأحايين دون هدف واضح لغياب الرؤى الاقتصادية الشاملة، وضعف التسويق لهذه الإجراءات التي كانت ستخلق العامل النفسي المطلوب.
خلل إداري
فعلياً، وإذا عدنا إلى عدد القرارات والتعاميم الصادرة خلال السنوات الأربع الماضية نجد أنها بالمئات، وكانت مفاعيلها تعالج جانباً ما (المستهدف) وتهمل جوانب أخرى انعكست سلباً على الاقتصاد الكلي الحقيقي، أو كما يعتقد الخبير الاقتصادي رئيس قسم الاقتصاد بكلية الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور موسى الغرير، أنها زادت من الخلل بين الاقتصاد المالي والنقدي، ومن هذا المنطلق وجد الخبير الاقتصادي، أن تثبيت سعر الصرف يكاد يكون مستحيلاً مهما كانت قوة “المركزي” التدخلية.
إلا أن الخبير الاقتصادي الدكتور عابد فضلية اتهم “المركزي” بأنه ينظر إلى العوامل التي تسهم في تحديد قيمة وقوة العملة الوطنية بأنها مجرد عوامل نقدية، ولا علاقة لها بالاقتصاد الحقيقي، لذلك تغيب عن سياساته وإجراءاته الرؤى والعوامل والمؤشرات الأخرى التي تلعب الدور الرئيسي في تحديد قيمة وقوة الليرة السورية، ألا وهي العوامل المالية والطاقات الإنتاجية وحجم التبادلات السلعية والخدمية، وبذلك وحسب رؤية فضلية، كانت تغيب عن إجراءاته ومعالجاته أي رؤى اقتصادية لها صلة بمسألة دعم الأنشطة الإنتاجية السلعية.
وبشكل أوضح يغيب عن المصرف المركزي ما ورد في قانون النقد الأساسي الصادر بالمرسوم 21 لعام 2011، الذي يُعدّ دستور عمله، والذي ينصّ على أن من أهم واجباته الحفاظ على استقرار قيمة الليرة السورية مقابل العملات الرئيسية، والحفاظ على استقرار أسعار السلع والخدمات كهدف نهائي، ودعم السياسات الاقتصادية على المستوى الكلي بتعزيز النمو الاقتصادي والتشغيل. ويعود قرفول، ليؤكد صعوبة مساهمة “المركزي” في استقرار سعر الصرف وإيجاد الحلول دون التنسيق والتشبيك مع الجهات الاقتصادية المعنية، ومع غياب الخطط الإستراتيجية نتيجة تداخل السياسات والإجراءات، أدت بعض تدخلات “المركزي” بعكس الغايات المرجوة، بينما أدت الكثير من تلك التدخلات إلى استقرار سعر صرف الليرة ولفترات طويلة وانعكست إيجاباً على الاقتصاد الوطني، على حد تعبير نائب الحاكم، الذي رأى -وكما تبيّن للجميع- أن الأزمة العميقة في مخططاتها ومؤامراتها الخارجية على الدولة السورية -ليست ذات جذور اقتصادية طبعاً- كبّلت أيدي “المركزي” وجهات اقتصادية ومالية أخرى ذات صلة بسعر الصرف عن اتخاذ قرارات صائبة مجدية أكثر مما صدر، وكان يفترض أن تُتخذ، إلا أن الظروف الاستثنائية حالت دون ذلك؟!.
سياسات خاصة
ومن هذا الباب، خلص رئيس قسم الاقتصاد بجامعة دمشق إلى حاجتنا القصوى إلى أفكار خلاقة إبداعية تناسب الأوضاع الراهنة والمستجدات الطارئة، فعلى سبيل المثال -ونتيجة وصولنا إلى مرحلة الركود التضخمي- يشير الغرير إلى إمكانية اتباع سياستين متناقضتين خلال الأزمة: سياسة توسعية يتطلبها الركود وهي تناسب الفقراء بحيث تمكنهم من تحسين مستوى معيشتهم، وسياسة انكماشية يتطلبها التضخم وهي مناسبة للأغنياء، والهدف من السياستين تدوير رأس المال في عروق الاقتصاد ليقلع.
إن تردّد الجهات العامة بما فيها “المركزي” في اتخاذ قرارات، كان واضحاً من خلال التعديل والتغيير والتراجع في الإجراءات، والذي كان يوحي (ولو خطأً) للمواطن أو المراقب أو لقطاع الأعمال بالشك وعدم الثقة، وأثر سلباً في نفوس المستهلك تجاه مدى صحة قيمة السلع بما فيها (الليرة السورية)، وأضرّ حقيقة بالعملة الوطنية بشكل أو بآخر، إضافة إلى عدم التنسيق للخروج بسياسة نقدية اقتصادية كلية شاملة متكاملة منسجمة متماسكة، واختزال هذه السياسة بإجراءات وقرارات وتعاميم متفرقة.

دمشق– سامر حلاس