عبد الرحمن منيف.. مدوّنة الحضور
ربما يجوز القول أن أعمار المبدعين هي ما استبقوه من أعمال وأسفار إبداعية تتوزع على شتى مناحي الإبداع، قولاً روائياً وبحثياً وفكرياً، سيتعدد في الأزمنة اللاحقة ليفتح في أفق الدلالة ما هو مُنتظر، وما يمكن أن تحيلنا إليه تلك المدونات بمضاعفة الرهان على حضور المثقف/ المثقف الحقيقي العضوي ممارسةً وحياةً.
كان صاحب قصة حب مجوسية وشرق المتوسط ومدن الملح وأرض السواد وغيرها، مما تواضع النقاد على وصفه بالملاحم السردية الفارقة، فضلاً عن حيازتها كل مكونات السرد بالمعنى الفني.
لماذا عبد الرحمن منيف، ولم استدعاؤه الآن وهو الرائي العليم للأحداث الجسام، وصاحب الرؤيا فيما تؤول إليه حودث التاريخ ويومياته ومفاصله، في قراءته غير واقع تعيشه أمته العربية، وبهذا المعنى فإن استدعاءه هو استدعاء لسطر كثيف في الرواية المعاصرة، وفي وجوهها ومستوياتها على مستوى المقولات وعلى مستوى التقنيات، وأكثر من ذلك على مستوى ما يشغله المثقف في مساحة وعينا، من حضور نوعي وفارق بما تعنيه الكلمة من دلالة.
وبهذا المعنى أيضاً نقف على القيمة المضافة التي أنجزها –منيف- في جدليات التاريخ والرواية والمثقف الشاهد، الذي جعل من أفكاره أسلوب حياة، بل مثالاً عن قوة الروح وكثافة إلهامها في الأزمنة الصعبة، الأزمنة المستحيلة، حينما استردت رواياته التاريخ وأنتجته برؤية نقدية، ذلك المهموم بأفكار وهموم الرواية، ومنها أن هدف الرواية «يجب أن يكون محرك الرواية الصدق والجرأة: الصدق في القول والجرأة في التعامل مع الحقائق والأساليب»، كما «الدعوة لاستلهام البيئة المحلية فنياً، دعوة مشروعة ومطلوبة، لكن بملاحظة أن المحلية لا تعني الغرق الكلي في ذلك النفق أو تحويله إلى أحجية، سواء في موضوعه أو لغته، خاصة في محيط عربي متقارب من حيث المناخ النفسي أو التطور التاريخي»، وأن «من جملة التحديات التي تواجه النقد، لكي يكتسب مصداقيته، أن يكون موضوعياً ويعتمد مقاييس واضحة، وأن لا تتغير هذه المقاييس تبعاً للعمل أو الشخص الذي يتعامل معه، إذا وصلنا إلى هذا المستوى نضمن مساهمة النقد في خلق ذائقة جماهيرية وإلا فسوف يستمر القرّاء في اختيار كتابهم وكتبهم اعتماداً على الذائقة الخاصة، وبعيداً عما يشرعه النقد وما يريده النقاد».
قال منيف ذلك في محاضرة له على هامش معرض الكتاب السابع في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق عام 1989، في معرض حديثه عن الرواية العربية بوصفها «تاريخ من لا تاريخ لهم».
الكاتب المهجوس بالمنفى وأسئلته، ولعله «إنسان المنفى» بامتياز –عبد الرحمن منيف- عاش زمن الأفكار والأحلام، وكان سفيراً لقضية فاضت على متخيله السردي ليصطفيها في رؤاه النقدية وبحسه النقدي العالي، ليوزعها تخوماً معرفيةً تثري ثقافة الأسئلة، ولا تبحث في راهنها عن ثقافة الأجوبة، ما يعني أن لدى منيف المثقف وفي المدونات التي تركها بيننا ما يفيض عن الجواب، أي في تلك الملاحم السردية وبانتباهاتها للتحولات الكبرى في الوعي وفي الذائقة، وباستشرافها للمستقبل نبوءة وحدساً ما تنطوي عليه تلك الأبعاد التأملية وبشروطها الفلسفية، من مقاربة شديدة الأهمية مازلت تغذي الدرس النقدي العربي.
ذلك الممتلئ سخرية وكان هاجسه أن ينتجها وعياً مضاداً للقبح، وعياً جمالياً نادراً مشدوداً إلى أصالة الفكر، مضى دون التفاتة أو بقية من كلام، ليصبح ذاكرة مدوناته، لا ذكرى عابرة تمر من أمامنا.
عبد الرحمن منيف وقّع على لوح أسفاره ما ينبغي قوله وما أطل عليه هو بذاته، ولعله يعود لابساً كل شخصياته لتحاورنا الآن، وتستمر بأسئلته/ أسئلتها الكبرى، في منعطفات المصير والوجود والهوية… إنه الباقي للأزمنة القادمة.
أحمد علي هلال