“الأب” وثيقة تاريخية تماوجت بين الواقعية والإبداع
يعدّ فيلم “الأب” الذي عُرض بالتعاون مع مؤسسة أحفاد عشتار بحضور مخرجه باسل الخطيب والممثلين وكثير من المشاهدين في المركز الثقافي العربي –أبو رمانة- وثيقة تاريخية أرّخت لمرحلة عاشتها سورية خلال سنوات الحرب الإرهابية في حصار المجموعات الإرهابية منطقة جسر الشغور وهجومها على المشفى الذي التجأ إليه الأهالي، ورغم أن المخرج الخطيب استمد أحداث فيلمه من شخصيات واقعية عاشت الحدث ونجت من الأسر والموت، إلا أن كاميرته الإبداعية بدت واضحة بقوة بتنقلها مع مسار تصاعد الأحداث في الطرق الجبلية الوعرة المتاخمة لقلعة الحصن وفي مغاورها وسراديبها، لتأخذ المشاهد في رحلة قاسية المعالم تترك في الذات الكثير من الخوف والحزن في آن واحد. ولم يتوقف إبداع الخطيب عند حركة الكاميرا بدمجه مستويات مختلفة من التصوير المؤطر والمفتوح والمعتم حيناً مع ضبابية الصورة ليبقى ذاك الدخان الأسود المنبعث شاهداً على الدمار والموت معتمداً على الإضاءة الخافتة الليلية المتناسبة مع حدث الهرب والمغادرة والمثيرة للحظة المفاجآت القاتلة، إذ تميّزت موسيقا سمير كويفاتي منذ بداية الشارة بنغمات البيانو الرقيقة والامتدادات الوترية ويعلو صوتها على الحوارات الإنسانية في مواضع.
الحامل الأساسي للفيلم كان الفنان أيمن زيدان بأدائه الإنساني الساحر الهادئ المعبّر عن الوجع والقهر الإنساني، ورسائل الخطيب الموجعة لم تكن فقط في إظهار خيانة وطن أو في سلوكيات داعش ومبادئها، وفي معاناة الأهالي والتعذيب الذي تعرضوا له فقط وإنما في إيضاح انتصار سورية بفضل الإرادة والإيمان، لكن الرسالة الخفية الأقوى كانت بعودة المغرر بهم الذين خانوا أبناء شعبهم ليعودوا إلى أرض الوطن.
حبات الثلج والفراق
وضعنا المخرج منذ اللحظات الأولى بغموض حبات الثلج البيضاء التي تغطي الأرض وتنهمر على بناته لتعود هذه اللقطة بقوة وهو في أصعب لحظة تفصل بين الحياة والموت، ويبدأ المخرج بالحدث المباشر للهجوم وحصار المدينة لنرى الفنان أيمن زيدان متوتراً يحاول إقناع والده بمغادرة المنزل، لتمضي العائلة بالطريق الجبلي المؤدي إلى المشفى تحت وابل من رصاص القناصين والقذائف، ومن قبو المشفى يتصاعد السياق الدرامي ليتقاطع فيلم الأب في جانب منه مع فيلم ردّ القضاء لنجدت أنزور، لاسيما بحضور البطل عامر علي بدور الطبيب أيضاً الذي ينقذ حياة الجرحى لكنه يمضي بسياق آخر في فيلم الأب، حينما يلتزم بالأمر العسكري للضابط عيسى –علاء قاسم-بمرافقة الأهالي بإخراجهم من المشفى نحو الطريق الخلفي للجبل، ليستشهد في إحدى المفارق بين يدي حبيبته ديمة ابنة إبراهيم. تتوازى الكاميرا بين تصوير معسكر داعش وما يحدث تحت الأقواس الحجرية وبين رحلة الموت، لتتوقف عند اختطاف إبراهيم وزوجته وابنته الصغيرة وضياع مريم وديمة عنهم. ليصل الخطيب إلى التناقض الديني الذي يعيشه رجال داعش بصور جديدة قدمها بحوارات منطقية وهادفة بين إبراهيم وأبي قتادة قائدهم ورجاله متوقفاً عند الكلمة الفاصلة التي يقولها إبراهيم “أنا مؤمن بإذن الله” فيركز الخطيب على أبي قتادة الذي يردد أحاديث الرسول (ص) “الابتسامة في وجه أخيك صدقة”.
ويكشف الخطيب سرّ إبقاء إبراهيم على قيد الحياة مقابل تدريب الأطفال الذين تم تجنيدهم بمعسكر داعش ليوصل رسالة إلى العالم بأسره حينما يتخلى عن هدوئه ويعلو صوته في المشهد الحاسم وهو يبتسم لابنته الصغيرة ريمة وهي ترتدي العباءة السوداء، ليقول للأطفال:”لاتنسوا هي البلد بلدنا مو بلدهم بلدنا اللي ما بتشبه أي بلد واللي ما حبناها قد ما بتستاهل نحبها” ليكمل الخطيب رسالته برمزية في المشهد الأخير حينما لايقوى الطفل على إطلاق النار على إبراهيم.
رسالة سورية
وبعد العرض تحدثت د. أيسر ميداني عن إطلاق مؤسسة أحفاد عشتار مع فيلم مريم للخطيب مؤكدة تركيز المؤسسة على الإبداع السينمائي السوري، وعلى أهمية فيلم الأب الذي حمل الكثير من الرسائل، وعُرض في فرنسا البلد التي مازالت ترعى الإرهاب وغيّر الكثير من القناعات.
وأشار المخرج باسل الخطيب إلى أن الفيلم عُرض في سيدني بأستراليا ومدينة أخرى وأمام مجلس الشيوخ، وتمكن هذا الفيلم الذي حمل رسالة سورية الحقيقية بتغيير قناعة الكثيرين تجاه الحرب على سورية، ليكشف بأنه استمد أحداث فيلمه من أشخاص عاشوا الحدث قابلهم ووثق شهاداتهم بمساعدة مؤسسة أحفاد عشتار، ليضيف الممثل علاء القاسم الذي جسد دور الضابط عيسى بأن الفيلم وثّق الحرب في هذه المنطقة بمصداقية.
ملده شويكاني