دراساتصحيفة البعث

تطورات النظام الاقتصادي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية

د. أحمد السيد النجار

كاتب وأكاديمي مصري والرئيس السابق لمجلس إدارة مؤسسة الأهرام

بُني النظام الاقتصادي الدولي الراهن نهاية الحرب العالمية الثانية وعلى ضوء الأوضاع الاقتصادية العالمية آنذاك، حين كان الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي يقارب 45% من الناتج العالمي، وكانت الصادرات الأمريكية تشكل أكثر من ثلث الصادرات العالمية، وكان الدمار قد فتك باقتصادات أوروبا والاتحاد السوفيتي السابق واليابان والصين ودول كثيرة أخرى جراء تلك الحرب.

وعلى ضوء تلك الحقائق حازت العملة الأمريكية “وضعية” عملة احتياط عالمية، وهيمنت الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين على صناعة القرار كلياً في صندوق النقد والبنك الدوليين، وصارت المؤسستان الدوليتان مجرد وكيل لها لترويج السياسات التي تحقق مصالح واشنطن والرأسمالية العالمية، وأصبحتا وكيلا لها وللدول الدائنة بمواجهة الدول النامية المدينة وبهدف إجبارها على الإذعان لكل الطلبات الاقتصادية للدول الدائنة.

وعندما تطلب الأمر من المؤسستين تحطيم القواعد التي تم بنائهما على أساسها، لم تترددا لحظة في ذلك، واتضح ذلك في الأزمة المكسيكية عام 1995 حين قامتا يهذه المهمة بمجرد طلب تليفوني من الرئيس الأمريكي بيل كلينتون آنذاك، فقد تلقت المكسيك قرضاً من الصندوق قيمته 17800 مليون دولار ويعادل 1015% من حصتها في الصندوق التي تبلغ 1753 مليون دولار، وضمن القرض حصلت المكسيك على 7800 مليون دولار فورا تعادل 445% من حصتها في الصندوق، وهو ما يعني عملياً الإطاحة بكل أسس إقراض الصندوق لأعضائه والتي تقضي بحق الدولة العضو في الحصول على تسهيل ائتماني بنسبة 68% من حصتها في الصندوق على ألا تتجاوز التسهيلات الائتمانية المتراكمة التي تحصل عليها نسبة 300% من حصتها، وتستطيع الدولة العضو الحصول على تسهيل تمويل تعويضي بنسبة 95% من حصتها، أما قروض المساندة للإصلاح أو التحول الهيكلي، فإن كل دولة عضو يمكنها أن تحصل في أقصى الحالات الاستثنائية على 200% من حصتها خلال ثلاث سنوات.

لقد أطاح القرض المقدم للمكسيك بكل تلك القواعد وتكرر الأمر بصورة أكبر في الأزمات الآسيوية عام 1997 ولم تعد هناك قواعد مرجعية، بل هيمنة أمريكية فجة تدوس على القواعد التي وضعتها هي نفسها عندما تقتضي مصالحها ذلك.

وخلال تلك السنوات، تطورت الأفكار الاقتصادية، وبقيت الولايات المتحدة تصارع لإبقاء النظام الاقتصادي العالمي القديم قيد العمل، والذي يضمن لها الهيمنة العالمية، وعلى الرغم من أن كل مبرراته الموضوعية قد زالت من جهة، وتم العبث بقواعد عمله من جهة أخرى.

وعلى سبيل المثال كان من بين الأهداف الرئيسية المعلنة لصندوق النقد الدولي هو العمل على ثبات أسعار الصرف بين الدول الأعضاء، وتحولت برامج الصندوق إلى آلية لتحقيق الاضطراب وعدم الاستقرار في أسعار الصرف بين الدول الأعضاء من خلال عمليات التخفيض والتعويم للعملات التي يطلب الصندوق من الدول المدينة والتي تطبيقها كشرط لجدولة الديون أو الحصول على قروض جديدة.

وعلى مر تلك السنوات، قاتلت الولايات المتحدة من أجل بقاء عملتها عملة احتياط دولية، بما يساعدها على نهب ثروات العالم من خلال أوراق نقدية تصدرها بلا تغطية ذهبية، إذ أن واشنطن كانت قد توقفت عن ربط إصدار أوراق نقدية من الدولار مقابل تغطية بالذهب في آب 1971 وحتى بلا غطاء إنتاجي أيضاً حيث، ولم يعد حجم الإصدار النقدي الأمريكي الهائل يتناسب مع معدلات النمو البطيئة للاقتصاد الأمريكي.

وتعتمد تلك الآلية اللصوصية التي كدست الولايات المتحدة الثروة من خلالها على حساب العالم على أن مختلف دول العالم تقوم بتسوية التزاماتها في التعاملات الاقتصادية الدولية بالدولار الأمريكي بحيث تهيم الدولارات التي أصدرتها الولايات المتحدة كمجرد أوراق بلا أي غطاء في أسواق العالم ولا تعود للولايات المتحدة مجددا، وحتى لو عادت تلك الدولارات للولايات المتحدة لتطلب سلعاً وخدمات أمريكية مقابلها، فإنها ستدمر الاقتصاد الأمريكي بإشعال موجة تضخمية عملاقة وجامحة لا يحتملها أي اقتصاد.

هبوط وصعود

لقد شهدت السنوات الأربعين الماضية تدهور نمو الناتج الأمريكي وتراجع حصته من الإجمالي العالمي مقابل صعود الصين والدول النامية، وتشير البيانات إلى أن الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي كان يشكل نحو 36,2% من الناتج العالمي بدون الاتحاد السوفيتي وشرق أوروبا عام 1970 وتراجع إلى 25,8% عام 1997 وإلى 23,4% عام 2010 ونحو 23,2% عام 2015 وبالمقابل كان الناتج المحلي الإجمالي للصين يشكل نحو 3,3% من الإجمالي العالمي بدون الاتحاد السوفيتي وشرق أوروبا عام 1970 وارتفع إلى 3,5% عام 1997 ونحو 14% عام 2015 فيما كان الناتج القومي الإجمالي لروسيا 1,3% عام 1997 في ذروة الانهيار الذي شهده عهد يلتسين، وارتفع إلى 2,2% عام 2015 وبلغت حصة الدول الغنية من الناتج العالمي بدون الاتحاد السوفيتي وشرق أوروبا نحو 75,4% عام 1970 ونحو 79,7% عام 1997 في ظل الأزمات الاقتصادية والانهيارات المالية في العديد من الدول النامية في آسيا، ما قلص حصتها في الناتج العالمي لصالح الدول الغنية، وانخفضت تلك الحصة بقوة إلى 64,2% عام 2015 رغم دخول عدد من الدول الجديدة إلى مصاف الدول الغنية.

وبالمقابل بلغت حصة الدول النامية نحو 24,6% من الإجمالي العالمي بدون الاتحاد السوفيتي وشرق أوروبا عام 1970 وانخفضت تلك الحصة إلى 20,3% عام 1997 في ذروة الأزمات الاقتصادية والانهيارات المالية التي ضربت أكبر الاقتصادات الناهضة في شرق وجنوب شرق آسيا في العام المذكور، ثم ارتفعت بشكل هائل إلى 35,8% عام 2015 بفضل صعود اقتصادات الصين والهند والبرازيل وروسيا وغيرها من الاقتصادات الناهضة.

أما الناتج القومي الإجمالي الحقيقي المقاس بتعادل القوى الشرائية، والذي يتم من خلاله تفادي تأثير تقلبات العملات بعيداً عن أسعار التوازن المثالية بينها والقائمة على توازن القدرات الشرائية لكل منها في سوقها، فقد شكل الناتج القومي الإجمالي الأمريكي نحو 21,4%من الإجمالي العالمي عام 1997 وانخفض إلى 16,1% عام 2015 وبالمقابل شكل الناتج القومي الإجمالي للصين المُقاس بتلك الطريقة نحو 10,4% عام 1997 وارتفع إلى 17,1% عام 2015 متفوقاً لأول مرة على نظيره الأمريكي.

وكان مجموع النواتج القومية للدول الغنية بما فيها الولايات المتحدة يشكل نحو 58,3% من الإجمالي العالمي المُقاس بتلك الطريقة عام 1997 وانخفض بشكل كبير إلى 47,7% عام 2015 رغم دخول دول جديدة إلى نادي الدول الغنية مثل كوريا الجنوبية، وبعض الدول النفطية. وبالمقابل ارتفع مجموع النواتج القومية للدول النامية وضمنها الصين والمُقاسة بتعادل القوى الشرائية من 41,7% من الإجمالي العالمي عام 1997 إلى 52,4% عام 2015 متفوقاً على الدول الغنية وضمنها الولايات المتحدة.

وهكذا تجاوزت حصة الدول النامية والناهضة وضمنها الصين، حصة الدول الغنية وضمنها الولايات المتحدة في الناتج العالمي الُمقاس بتعادل القوى الشرائية بصورة قوية وراسخة بفضل الزيادات الهائلة في الناتج القومي في الصين والهند والبرازيل وروسيا أساساً، وتقدمت الهند بسرعة كبيرة ليصبح ناتجها القومي الإجمالي في المرتبة الثالثة عالمياً بعد الصين والولايات المتحدة، كما تقدمت روسيا بشكل سريع في عهد بوتين لتتجاوز الانهيارات الهائلة التي تعرض لها اقتصادها في عهد يلتسين والذي ترافق أيضاً مع مستويات متدنية للغاية لأسعار النفط والغاز وحصيلة الصادرات الروسية منهما، وأصبحت قيمة الناتج القومي الإجمالي الروسي المقدر بالدولار وفقا لتعادل القوى الشرائية في المرتبة السادسة عالمياً والتي من المرجح أن يتجاوزها ليشغل المرتبة الخامسة مكان ألمانيا قبل نهاية العقد الحالي.

وفيما يتعلق بمعدل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي، فقد عانى الاقتصاد الأمريكي من حالة من البطء الطويل الأجل منذ نصف قرن تقريباً، وكان البطء ناجم عن ضعف الطلب الفعال بسبب سوء توزيع الدخل، وتراجع القدرة على المنافسة في الأسواق الدولية بعد إعادة بناء اقتصاديات أوروبا واليابان وبعض الدول النامية، وتعاظم قدرتها على التصدير بقدرة تنافسية عالية.

وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن متوسط معدل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة 1965-1980 بلغ نحو 2,7% سنوياً في الولايات المتحدة، مقارنة بنحو 6,4% سنوياً في الصين، ونحو 6,5% في اليابان، ونحو 3,7% في مجموع اقتصادات دول الدخل المرتفع، ونحو 5,8% في مجموع اقتصادات دول الدخل المنخفض والمتوسط.

وخلال الفترة 1981-1990 بلغ متوسط معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي الأمريكي نحو 2,9%، مقارنة بنحو 9,1% للصين، ونحو 4% لليابان، ونحو 3,1% للاقتصادات الغنية المتقدمة، ونحو 4,2% للدول النامية، وخلال الفترة 1991-2000 بلغ متوسط معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي الأمريكي نحو 3,4% في ظل السياسات الاقتصادية لإدارة بيل كلينتون التي أدت لتحسن طفيف في توزيع الدخل ومؤثر في فعالية الطلب المحلي المحرك للاستثمار والنمو، مقارنة بنحو 10,4% في الصين الصاعدة كالصاروخ، ونحو 1,2% في اليابان، ونحو 2,8% في مجموع الاقتصادات الغنية المتقدمة، ونحو 3,6% في الدول النامية التي تأثرت سلباً بالأزمات المالية والاقتصادية الهائلة التي ضربت اقتصادات شرق وجنوب شرق آسيا بفعل اختلالاتها والمضاربات الأمريكية المدمرة لاستقرارها المالي.

وخلال الفترة 1999-2008 بلغ متوسط معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي الأمريكي نحو 2,6%، مقارنة بنحو 10,1% للصين، و1% لليابان، و2,5% للدول الغنية المتقدمة، و6,2% للدول النامية، وخلال الفترة 2009-2017 بلغ متوسط معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي الأمريكي نحو 1,6%، مقارنة بنحو 8,1% للصين، و0,7% لليابان، و1,3% للدول الغنية المتقدمة، و5% للدول النامية.

وبالرغم من انخفاض أسعار الفائدة والإقراض على الدولار والعملات الحرة الرئيسية منذ عام 2008 وحتى اليوم إلى أدنى مستوياتها من نصف قرن، إلا أنها لم تنجح باستنهاض نمو اقتصادي فعال في تلك البلدان، وأتاحت إمكانية الحصول على تمويل منخفض الأعباء للدول المقترضة عموماً.

أما معدل البطالة في الولايات المتحدة الأمريكية فقد بلغ 4,7% نهاية عام 2016 ونحو 9,6% من قوة العمل في دول منطقة اليورو في 2016 مقابل نحو 4% من قوة العمل في الصين عام 2016.

عجز وتراجع

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ظلت الولايات المتحدة تتربع على المرتبة الأولى كأكبر مصدر للسلع في العالم، وكانت صادراتها تشكل أكثر من ثلث الصادرات العالمية في ظل خراب الاقتصادات الأوروبية واليابانية والصينية والروسية جراء الحرب، وفي عام 1960 بلغت قيمة الصادرات السلعية الأمريكية نحو 19,6 مليار دولار وشكلت نحو 16,6% من الإجمالي العالمي بدون الاتحاد السوفيتي السابق ودول شرق أوروبا، تلتها ألمانيا بصادرات قيمتها 11,4 مليار دولار وتوازي نحو 9,6% من ذلك الإجمالي العالمي، وبريطانيا بصادرات قيمتها 10,6 مليار دولار توازي نحو 9% بينما بلغت قيمة الصادرات الصينية نحو 2,6 مليار دولار وشكلت نحو 2,2% من ذلك الإجمالي العالمي.

واستمرت الهيمنة الأمريكية على المركز الأول إلى أن أزاحتها ألمانيا عن المرتبة الأولى في الأعوام 1986، 1987، 1988، 1990، حيث بلغت قيمة الصادرات السلعية الألمانية في الأعوام المذكورة بالترتيب نحو 243,3 ، 294,4 ، 323,3 ، 410,1 مليار دولار، بينما بلغت قيمة الصادرات الأمريكية في الأعوام المذكورة بالترتيب نحو 227,2 ، 254,1 ، 322,4 ، 393,6 مليار دولار.

لكن الولايات المتحدة عادت وتجاوزت ألمانيا واستمرت في المرتبة الأولى حتى عام 2004 عندما عادت ألمانيا لتتجاوزها حيث بلغت قيمة الصادرات الأمريكية في ذلك العام نحو 883,8 مليار دولار، مقارنة بنحو 894,4 مليار دولار لألمانيا، ونحو 803,4 مليار دولار للصين.

لكن العام 2005 شهد صعود الصين للمرتبة الأولى كأكبر مصدر للسلع في العالم لأول مرة في العصر الحديث. ومن وقتها لم تتزحزح الصين عن المرتبة الأولى مطلقاً، بل عززت تفوقها بفارق هائل عن الولايات المتحدة وألمانيا، وبلغت قيمة الصادرات الصينية عام 2005 نحو 999,6 مليار دولار، مقارنة بصادرات ألمانية قيمتها نحو 966,4 مليار دولار، وصادرات أمريكية قيمتها نحو 962,3 مليار دولار في العام المذكور.

وفي عام 2014 بلغت قيمة الصادرات السلعية الصينية نحو 2406 مليار دولار وشكلت نحو 12,8% من إجمالي الصادرات العالمية، مقارنة بصادرات سلعية أمريكية قيمتها نحو 1536 مليار دولار شكلت نحو 8,2% وصادرات ألمانية قيمتها 1472 مليار دولار وشكلت نحو 6,6% ووفقاً لقاعدة بيانات تقرير مؤشرات التنمية في العالم الذي يصدره البنك الدولي، بلغت قيمة الصادرات الصينية عالية التقنية عام 2014 نحو 558.6 مليار دولار لتتصدر العالم في هذا المؤشر واحتلت ألمانيا المرتبة الثانية بصادرات عالية التقنية بلغت قيمتها 199.7 مليار دولار، والولايات المتحدة في المرتبة الثالثة بنحو 155.6 مليار دولار في العام نفسه.

ومن المؤكد أن مؤشر الصادرات السلعية الصينية العادية والعالية التقنية يرتبط بالحجم الهائل للناتج الحقيقي للصين وبالقدرة التنافسية المتفوقة لذلك الناتج حتى الآن، وتحقق الصين فائضاً تجارياً هائلاً لم ينقطع منذ عام 1994 حتى الآن وفقاً لبيانات تقارير صندوق النقد الدولي السنوية عن إحصاءات اتجاهات التجارة.

ووفقاً لبيانات الشركاء التجاريين للصين، فقد بلغ الفائض التجاري الصيني عام 2014 نحو 810 مليار دولار، وتشير البيانات الصينية إلى أن قيمة الواردات الصينية من الخارج قد بلغت نحو 1963 مليار دولار عام 2014 مقابل صادرات قيمتها 2343 مليار دولار وفائض تجاري بلغ 380 مليار دولار للعام نقسه.

ويعد الفائض التجاري الصيني هو الأعلى في العالم بلا منازع سواء أخذنا بالبيانات الصينية التي تنزع إلى تقليل قيمة صادراتها وفوائضها لتخفيف الضغوط الأمريكية والغربية عليها لرفع سعر عملتها، أو بيانات الشركاء التجاريين التي تضاعف قيمة ذلك الفائض التجاري الصيني، كما تتصدر ألمانيا قائمة الدول الغربية في فائض تجارتها الخارجية الذي بلغ نحو 216 مليار دولار عام 2014

بينما تحولت اليابان منذ عام 2010 إلى تحقيق عجز تجاري تصاعد حتى بلغ نحو 122 مليار دولار عام 2014 وفقا للبيانات اليابانية، وتعاني الولايات المتحدة من عجز تجاري عمره أكثر من أربعة عقود، وبلغ عجزها التجاري 728 مليار دولار عام 2014 وتكشف هذه البيانات التفوق الإنتاجي والتجاري الصيني الكبير.

وفي السياق نفسه، تراجعت حصة الدول الغنية من الصادرات العالمية من 70,4% من إجمالي الصادرات العالمية عام 1985 إلى 55,7% عام 2014 وارتفعت حصة الدول النامية من 29,6% عام 1985 إلى نحو 42,7% عام 2014 .

وقد زادت حصة روسيا من الصادرات العالمية، وبعد أن كانت مجمل حصة الاتحاد السوفيتي نحو 1,9% عام 1985 فقد بلغت حصة روسيا وحدها نحو 1,5% عام 1995 وارتفعت إلى 2,5% عام 2014 وكما زادت حصة الهند من 0,5% عام 1985 إلى نحو 1,7% عام 2014 .

ومنذ عام 1976 بدأ الميزان التجاري الأمريكي يعاني من عجز كبير لم ينقطع نهائياً حتى اليوم، وخلال الخمسة وعشرين عاماً الأخيرة من عام 1990 حتى عام 2014 بلغت قيمة العجز التجاري الأمريكي المتراكم نحو 12098 مليار دولار، ولو أخذنا بالقيمة الحالية لذلك العجز المتراكم عبر سنوات طويلة بدولارات الوقت الراهن، فإن الرقم سيرتفع بشكل هائل على ضوء معدلات التضخم وأسعار الفائدة خلال تلك السلسلة الزمنية الطويلة.

كذلك، فإن ميزان الحساب الجاري الأمريكي والذي هو محصلة الميزان التجاري وميزان تجارة الخدمات والتحويلات يعاني بدوره من العجز المتواصل منذ عام 1977 وحتى اليوم، باستثناء عامين فقط هما 1980 و1981 وبلغت قيمة صافي العجز في ميزان الحساب الجاري الأمريكي منذ عام 1977 وحتى عام 2014 نحو 9970 مليار دولار، وإذا وضعنا هذا العجز المتراكم في سياق سلسلة زمنية، فسنجد أنه قد تضاعفت قيمته عدة مرات إذا جرى احتسابه بدولارات الوقت الراهن.

وعلى ضوء هذه الحقائق التي تكشف العجز الهائل والمتواصل للميزان التجاري وميزان الحساب الجاري الأمريكيين يبدو من المشروع تماما التساؤل عن الكيفية التي واجهت بها الولايات المتحدة هذا العجز الكفيل بتدمير اقتصادات دول وقارات بأكملها وليس دولة واحدة، وعبر استغلال وضعية الدولار كعملة احتياط دولية، والإفراط في إصدار النقد، وفي الاقتراض عبر سندات وأذونات الخزانة الأمريكية، بحيث تجاوز الدين العام الأمريكي عتبة الناتج القومي الإجمالي للولايات المتحدة في الوقت الراهن، وبنسبة تزيد عن أربعة أمثال مديونية الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل، والحقيقة أن الولايات المتحدة لم تعد هي تلك القوة المهيمنة على الاقتصاد العالمي بإنتاج السلع والخدمات.

وبدأ أفول نجم وعصر الهيمنة الاقتصادية العالمية الأمريكية منذ انفجار أزمة الكساد العظيم الثاني في عام 2008 حين تولت الصين باحتياطياتها الهائلة مهمة القاطرة التي تقود الاقتصاد العالمي وعملية خروجه من الأزمة، وتبلغ تلك الاحتياطيات حالياً أكثر من 4,3 تريليون دولار.

لكن الولايات المتحدة تختلف عن باقي الإمبراطوريات العالمية السابقة بأن قوتها وهيمنتها الاقتصادية العالمية تتراجع، ولم تعد هي مصنع العالم، كما كانت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولم تعد المورد الأول للسلع الصناعية أو حتى للسلع العالية التقنية حيث حلت محلها الصين، إلا أن قوتها العسكرية التقليدية وفوق التقليدية الهائلة ما زالت في الصدارة عالمياً باعتبارها إحدى القوتين العظميين في العالم.

أما الحقيقة الباقية للولايات المتحدة فهي أنها أصبحت بلطجي العالم الذي يتنطع على كل بلدان العالم للحفاظ على مكانته المهيمنة بإشعال الحروب وتمويل العنف والإرهاب وبالتهديد والإجبار للدول على فعل ما تريده واشنطون.

وتستند الولايات المتحدة في القيام بتلك البلطجة على قوتها العسكرية الهائلة وهيمنتها غير المبررة على صندوق النقد والبنك الدوليين وعلى وجود عدد هائل من القواعد العسكرية التابعة لها والمنتشرة في مختلف أنحاء العالم، كما تستند الولايات المتحدة في ذلك على تجارة السلاح الذي ينتجه غول المجمع الصناعي العسكري الأمريكي وتشتعل به الحروب والصراعات الإقليمية التي يتم توظيفها في إجبار الدول التابعة والعميلة على توقيع عقود هائلة لشراء السلاح الأمريكي وللتعاقد على مختلف الخدمات الأمنية والتدريبية مع الشركات الأمريكية.

لقد صارت الولايات المتحدة نفسها قرصان اقتصادي عملاق مدجج بالسلاح، ولديها تاريخ حافل بالنهب والاستعباد للآخرين، وهي دولة قامت أصلاً على جماجم 37 مليون إنسان من الهنود الحمر السكان الأصليين، وليس غريباً اليوم أن تمارس وظيفة القرصان الاقتصادي لنهب مختلف بلدان العالم ومن خلال استغلال وإدارة القيادات والنخب الفاسدة في تلك البلدان.

ويشير جون بيركنز في كتابه “اعترافات قرصان اقتصادي..الاغتيال الاقتصادي للأمم” إلى أنه عندما بدأ العمل مع معلمته كلودين، قالت له: مهمتي أن أشكلك لتكون قرصان اقتصاد وأضافت أن مهمتك أن تشجع زعماء العالم ليصبحوا جزء من شبكة اتصالات واسعة تروج لمصالح الولايات المتحدة التجارية، وسيقع هؤلاء القادة بالنهاية في شراك شبكة من الديون لنضمن خضوعهم لنا، وهكذا نستطيع الاعتماد عليهم كلما رغبنا بإشباع رغباتنا السياسية والاقتصادية والعسكرية.

ويضيف بيركنز في تعريفه لقراصنة الاقتصاد وهي وظيفة رسمية سرية، بأنهم خبراء محترفون ذوو أجور مرتفعة، ومهمتهم هي أن يسلبوا ملايين ومليارات الدولارات بالغش والخداع من دول عديدة في سائر أنحاء العالم، ويحولون المال من البنك الدولي وهيئة المعونة الأمريكية وغيرها من مؤسسات المساعدة الدولية ليصبوه في خزائن الشركات الكبرى وجيوب حفنة من العائلات الثرية التي تسيطر على الموارد الطبيعية للكرة الأرضية، وإن وسائلهم لتحقيق ذلك تشمل اصطناع التقارير المالية، وتزوير الانتخابات، والرشوة، والابتزاز، والجنس، والقتل.

ويشير في موضع آخر من نفس الكتاب إلى أنه تم تكليفه بتطبيق قدراته الإبداعية في تبرير استنزاف مليارات الدولارات من اقتصاد السعودية بشرط إدراج شركات الهندسة والبناء الأمريكية، ويقول” إن التطور الاقتصادي في السعودية سوف يستتبعه في الغالب نمو صناعة أخرى هي صناعة أمن شبه الجزيرة العربية، فالشركات المدنية المتخصصة في الصناعات العسكرية والهيئات الصناعية التابعة للجيش الأمريكي سوف توقع عقوداً سخية وعقود صيانة وإدارة طويلة الأجل.

وتجسيداً لمنطق القرصنة استخدمت الولايات المتحدة كل حيلها خلال زيارة ترامب الأخيرة لمملكة عائلة سعود لتوقيع صفقات هائلة لتوريد السلاح الأمريكي لها بأسعار خرافية وبقيمة إجمالية بلغت 460 مليار دولار تستورد بموجبها أسلحة أمريكية فورا بقيمة 110 مليار دولار، وصفقات أخرى بقيمة 350 مليار دولار على مدار 10 سنوات، وفضلا عن تلك الصفقات تم التوصل إلى صفقة ضخمة أخرى قد تصل قيمتها إلى 50 مليار دولار بين شركة أرامكو السعودية وشركات جنرال إلكتريك، وهاليبورتون، وقد استغلت الولايات المتحدة الخلاف والتوتر بين إمارة قطر ومملكة عائلة سعود عام 2017 حول من منهما تدعم الإرهاب، وما تلاه من سعي كل منهما لنيل رضا الولايات المتحدة والحصول على الغطاء السياسي منها، وقامت الأخيرة بابتزازهما معا وهي تعلم علم اليقين أن كل منهما تمول وتدعم الإرهاب لأنها ببساطة هي من يدير ويرعى ذلك الإرهاب ورعاته الإقليميين وفي مقدمتهم مملكة عائلة سعود وقطر، لكنها استغلت الأزمة وحصلت في النهاية على الصفقات التي تضمن ضخ الدماء لمجمعها الصناعي العسكري العملاق ولشركاتها النفطية الكبرى.

ويمكن القول إجمالاً: إن النظام الاقتصادي العالمي ينطوي على تناقضات موضوعية جمة، ومن أبرزها استمرار الدولار كعملة احتياط دولية رغم أنه عملة دولة تعاني كل موازينها الخارجية من عجز هائل، وعليها ديون تتجاوز مديونيات مجموع الدول النامية مجتمعة ومعدلات نموها الاقتصادي بطيئة للغاية.

وإن استمرار الدولار كعملة احتياط دولية يسمح للولايات المتحدة بالإثراء بشكل لصوصي على حساب العالم عبر الإفراط في الإصدار النقدي بلا غطاء ذهبي أو إنتاجي والحصول على سلع وخدمات العالم مقابل مجرد أوراق نقدية بلا أي غطاء كما ورد آنفاً.

وكانت روسيا والصين ومعهما بعض الدول الغربية الكبرى مثل فرنسا قد طرحت في عنفوان انفجار الأزمة المالية والاقتصادية الأمريكية والعالمية عام 2008 ضرورة تغيير وضعية الدولار كعملة احتياط دولية بعد أن أساءت الولايات المتحدة استخدام تلك الوضعية للتربح على حساب العالم بإصدار أوراق نقدية دولارات بلا غطاء ذهبي أو إنتاجي واستلاب سلع وخدمات كل بلدان العالم مقابل مجرد أوراق نقدية لا مبرر اقتصادياً لإصدارها أصلاً.

كذلك فإن النظام الاقتصادي الدولي الذي قام على هيمنة الولايات المتحدة والغرب واليابان، ظل حتى عام 2015 لا يستوعب تغيير حقائق الواقع الموضوعي والصعود الهائل لاقتصادات الصين والهند وروسيا والبرازيل وبعض الاقتصادات الناهضة الأخرى على حساب القوى الاقتصادية الغربية المهيمنة تقليدياً على الاقتصاد العالمي ما حفز محاولات بناء أنظمة علاقات اقتصادية دولية موازية عبر التكتلات الاقتصادية الإقليمية القديمة وتوسيع نطاق التعامل بالعملات المحلية لدول تلك التكتلات على حساب التعاملات التقليدية بالدولار والعملات الحرة الرئيسية، وعبر التكتلات الجديدة مثل مجموعة بريكس، والمبادرات الاقتصادية الجديدة مثل مبادرة الحزام والطريق.

بريكس والحزام والطريق

إزاء التناقضات التي ينطوي عليها النظام الاقتصادي العالمي قررت الصين واثني عشرة دولة آسيوية أخرى تأسيس صندوق مشترك عام 2009 بقيمة 80 مليار دولار لحماية منطقة شرق وجنوب شرق وجنوب آسيا من الأزمة المالية، وقررت الصين وروسيا والهند والبرزيل وجنوب إفريقيا تشكيل مجموعة بريكس وبنك التنمية الخاص بها برأسمال 100 مليار دولار والتعامل بين دولها بعملاتهم بالأساس، ولقد شكل ذلك التطور مبادرة حقيقية لتغيير النظام الاقتصادي الدولي بدلا من التكيف طويل الأجل مع نظام مختل وظالم ظل يعامل العملاق الاقتصادي الصيني كدولة عادية، متجاهلاً أن الصين هي القاطرة التي تقود الاقتصاد العالمي وتساعده على معالجة أزماته، وأنها أكبر قوة تجارية على وجه الأرض، وأن ناتجها المحلي الإجمالي مقدراً بالدولار وفقاً لتعادل القوى الشرائية يتجاوز نظيره الأمريكي بقرابة 1,6 تريليون دولار، وأن احتياطياتها المالية الهائلة تتجاوز 4,3 تريليون دولار وتزيد عن أربعة أمثال نظيرتها الأمريكية، كما أنها ثاني أكبر مصدر للاستثمارات المباشرة في العالم، حيث ضخت استثمارات مباشرة قيمتها 183,1 مليار دولار لباقي دول العالم عام 2016 وبلغ رصيد استثماراتها المباشرة المتراكمة حتى عام 2016 في مختلف بلدان العالم نحو 1281 مليار دولار.

وفي عام 2015 بلغت قيمة النواتج القومية الإجمالية لدول مجموعة بريكس أي الصين، وروسيا، والهند، والبرازيل، وجنوب إفريقيا بالترتيب نحو 10838، 1676، 2089، 2076، 334 مليار دولار عام 2015.

وبلغ مجموع تلك النواتج نحو 17013 مليار دولار وشكلت نحو 22% من الناتج العالمي عام 2015 وبلغت قيمة النواتج القومية الإجمالية المحسوبة بالدولار طبقا لتعادل القوى الشرائية للدول المذكورة بالترتيب نحو 19631، 3480، 7910، 3147، 708 مليار دولار عام 2015 . وبلغ مجموع النواتج القومية طبقا لتعادل القوى الشرائية للدول المذكورة مجتمعة نحو 34876 مليار دولار وشكلت نحو 30,3% من الإجمالي العالمي عام 2015 كما بلغت قيمة صادرات تلك الدول مجتمعة نحو 3673 مليار دولار وشكلت نحو 19,6% من إجمالي الصادرات العالمية عام 2014.

كما طرحت الصين مبادرة الحزام والطريق مستلهمة القيمة الرمزية لطريق الحرير القديم الذي نهض التعاون الاقتصادي بين دوله على أساس التعاون السلمي وتبادل المنافع بشكل حر دون سعي أي دولة إلى السيطرة على أي دولة أخرى مهما كان التفاوت في القوة بينها، وهو نموذج تعاون معارض لنموذج القوارب الأوروبية المسلحة أو أساطيل الغزو اللصوصي والإجرامي التي انطلقت من أوروبا لتحتل وتستغل وتنهب وتستعبد غالبية دول العالم الأقل تقدماً.

وتسعى الصين لتحويل المبادرة من مجرد إعلان نوايا عن صورة العلاقات الاقتصادية المبتغاة والقائمة على الحرية والعدل والتكافؤ، إلى تعاون دولي رابح للجميع، وقوة مادية في الواقع كنموذج مناقض لنموذج الهيمنة الأمريكية والغربية على مؤسسات النظام الاقتصادي الدولي الراهن وبخاصة صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية.

وفي محاولة لإيقاف النزوع الصيني لتشكيل فضاء اقتصادي بديل ونموذج مختلف للعلاقات الدولية، حاول الغرب والمؤسسات المالية الدولية استيعاب التململ الصيني من عدم عدالة النظام النقدي الدولي من خلال الاعتراف بالوضعية العالمية للعملة الصينية، وإدخال اليوان الصيني ضمن العملات الرئيسية التي تتم من خلالها تسوية المعاملات الاقتصادية الدولية، وجعله مكوناً رئيسياً في وحدة حقوق السحب الخاصة، حيث قرر صندوق النقد الدولي في أيلول 2015 إدراج اليوان الصيني في وحدة حقوق السحب الخاصة وبدأ التطبيق العملي له في تشرين أول 2016 وأعطى الصندوق وزناً نسبياً إلى عملة اليوان يبلغ 10.92% من وحدة حقوق السحب الخاصة، مقارنة بنحو 41,73% للدولار، ونحو 30,93% لليورو، ونحو 8,33% للين الياباني، ونحو 8,09% للجنيه الإسترليني البريطاني، وهذا الوزن الذي أعُطي لليوان الصيني في وحدة حقوق السحب الخاصة مرشح للتزايد سريعاً مع التوسع الكبير المتوقع في تسوية الالتزامات الدولية باليوان من خلال الشركاء التجاريين للصين التي تعد أكبر قوة تجارية على وجه الأرض.

لكن ذلك التحول في موقف المؤسسات المالية الدولية ومحاولة استيعاب الصين داخل أطر عملها مع الحفاظ على النظام النقدي الدولي تبدو كمحاولة وضع تنين عملاق في أنبوب مختبر بائس، وهي محاولة محكوم عليها بالفشل على الأرجح، لأن حقائق وضع الاقتصاد الصيني ودوره العالمي أكبر بكثير مما أعُطي للصين من وزن في وحدة حقوق السحب الخاصة.

كما أن تلك المحاولة لاستيعاب الصين ووأد محاولتها لتطوير وقيادة نطاق اقتصادي دولي موازي لم تحقق أي نجاح حتى الآن على الأقل فالصين مستمرة في محاولة تطوير مجموعة بريكس وتوسيعها.

إن نجاح عملية خلق بديل حقيقي وفعال للنظام الاقتصادي الدولي الراهن المختل والظالم تتوقف على توسيع عضوية مجموعة بريكس وبناء نظام متكامل للعلاقات التفضيلية والتمويلية بين دولها بصورة قائمة على العدالة والتكافؤ حتى لا تتم إعادة إنتاج أي نموذج جديد للهيمنة، ويتوقف أيضاً على الانتقال بمبادرة الحزام والطريق من مستوى إعلان النوايا الراهن إلى منظمة دولية وقوة مادية في الواقع لخلق فضاء اقتصادي موازي وإصلاح النظام الاقتصادي الدولي الراهن بشكل جوهري.