دمشقية الروح.. إندونيسية الذاكرة
“الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يذكره وكيف يتذكره ليرويه” هذه المقولة لغابرييل غارسيا ماركيز كتبها في تقديمه لكتابه “عشت لأروي”، وهذا ما ابتدأت به “أمل أبو سمرة” كتابها “دمشقية الروح إندونيسية الذاكرة” فهي توافق البعض القول بأننا كلنا نريد الحياة الوردية الخالية من الشوائب، نحلم بأن نفصّلها على هوانا ونغير فيها أشياء وأشياء، لكن الحياة في الواقع تسير قدماً تحفر ما تمر عليه وتطبعه في الذاكرة العنيدة التي ترفض أن تنسى.
يأتي هذا الكتاب كمحاولة لتوثيق سيرة ذاتية، وتمر بين السطور ذكريات تتأرجح ما بين وطنين تفصل بينهما آلاف الأميال، وطن ولدت فيه الكاتبة وهو سورية، ووطن عملت مع أهله وهو إندونيسيا، يبدأ الفصل الأول في الكتاب أو كما أرادت الكاتبة تسميته بالولادة الأولى، فكانت طفولتها ريفية في قرية ليست ببعيدة عن العاصمة دمشق في منطقة “جديدة عرطوز” في الخمسينيات من القرن الماضي، حيث رأت عيناها الضوء من أم لبنانية وأب سوري. طفولة تذكر منها اللعب حافية القدمين في حقولها الفسيحة والأم منهمكة مع الجارات في قطاف الزيتون في موسم الحصاد حيث تمسح جبينها المتعب بطرف منديل أبيض تغطي به رأسها كحجاب جارتها المسلمة، تعود الذاكرة إلى مخدع الطفولة الفرحة.. إلى الساعات الأولى من صباح العيد على صياح الديك، يمر بين السطور لمحات عن الفقر، عن نقص كثير من مستلزمات الحياة وأدواتها لسهولة عيشها، لكن تتحدث عن السعادة في تلك التفاصيل الصغيرة في سهرة الصيف على ضوء القمر، وفي الشتاء على ضوء القنديل حيث لا كهرباء ولا تلفزيون ولا مذياع، في سنتها الخامسة في عام 1958 انتقلت إلى العاصمة لتسكن في “حي القيمرية” حارات ضيقة جداً لكنها هادئة نظيفة أليفة، بيوتها من شدة القرب تكاد تقبّل بعضها بعضاً، تلك البيوت تختصر دمشق بالحميمية والتألق والجمال والحنين.
تقول الكاتبة: “جميع أبناء البشرية يولدون مرة واحدة، أما أنا فولدت مرتين، المرة الأولى رضيعة في سورية عام 1953 والمرة الثانية صبية في إندونيسيا عام 1975 حين بدأت العمل في سفارتها، في الولادتين والزمنين والبلدين والحضارتين تتربع ذاكرتي لتسرد كيف نشأت امرأة بجسد واحد وقلبين ينبع منهما أنهار محبة بحجم نهر الفرات والعاصي وبردى لتصب في محيطات بعمق الهادي والهندي خلفها أناس يقيمون في جزر إندونيسية لفحتهم جمرات الشمس ولونت جسدهم بالسمرة الساحرة”.
مراحل حياة الكاتبة جاءت على شكل محطات مقسمة إلى اثنتي عشرة محطة كانت أولها مع السفير الإندونيسي زين العارفين عثمان فكتبت في بدايتها “كنت أعرف أني سأنجح في كل مات أبتغيه، ليس لمعرفتي الغيب بل لأني سأحاول أن أتغلب على كل الصعاب الآتية”، المحطة الثانية كانت مع السفير مارتونو قادري فتقول “أخطو خطواتي الأولى في دربه الطويل، تساءلت بيني وبين ذاتي إن كنت قادرة على الاستمرار في رحلة يتناوب فيها اللقاء والوداع، التعود وعدم التحمل تلك هي طبيعة العمل الدبلوماسي سفير يسافر وآخر يأتي فهل يا ترى سأتأقلم؟ هل سأستمر؟” وكانت محطتها الثالثة مع السفير غارنوان دارمابوترا حيث وصفت هذه الفترة بقولها “مع توالي النور والظلمة كنت أسعى لأتأثر بالآخرين وأؤثر بهم لألعب مع الحياة كي لا تلعب بي وتنهكني، كان ضميري هو القاضي والسجان وإرادتي في الربح والخسارة واختياري هو الصواب والخطأ”، الصبر كان عنوان محطتها الرابعة مع السفير خالد ماوردي، وفي المحطة الخامسة مع السفير محمد حتا كانت حال الكاتبة تتراوح ما بين الحزن والكآبة ومن بعدها تنتظرنا الابتسامة والضحكة، ومابين الغضب والعصبية يركن الهدوء والسكينة، ومابين الأبيض والأسود تتسلل ألوان قوس قزح، كان السفير ويدودو أتموسوتيرتو بطل المحطة السادسة التي عبرت عنها بقولها “يقولون.. كل ذي عاهة جبار، لكن لا يعني هذا أن الشخص الذي يحمل عاهة في جسده هو من الجبابرة، هو إنسان قادر على إقناع نفسه للاستمرارية في الحياة، قادر على تكييف جسمه للتعايش مع العاهة، وقادر على ترويض عقله للتحكم بنقاط الضعف”، في المحطة السابعة كان السفير جاماريس سليمان التي وجدت فيها الكاتبة خطوات الأيام بطيئة كسلحفاة كسولة إلى نهاية مجهولة ومنها وجدت وقررت أن تمشي بتمهل مثل الحياة، وأن تتعلم منها تحمّل الألم وأن تتقبل دورها فيها، وأن تلعب معها لتمنعها من اللعب بها”، السفير زرقاوي سيوطي كان في المحطة الثامنة تبعه السفير سوكارني سيكار في المحطة التاسعة، أما العاشرة فكانت مع السفير مزمل بسيوني حيث تقول عن هذه المحطة بأنها وجدت بأن السعادة ليست في غياب المشاكل في حياتنا بل في التغلب عليها، في عدم البحث عنها خارج حدود الجسد بل بداخله بين الأضلع، في المحطة الحادية عشرة كانت مع السفير وهيب، إذ تجد الكاتبة أن الحياة تمر سريعاً تفلت منا دون أن نشعر، كل لحظة تمر ترحل إلى الأبد متمنية أن تمتلك آلة الزمن لتعود إلى الوراء وتمسك بلحظات فرت منها وتحتفظ بها للأبد، المحطة الأخيرة كانت مع السفير جوكو هاريانتو حيث عبرت عنها: “وصلت لبداية النهاية، هل يا ترى نهاية العمل؟ نهاية التحدي؟ أم هي نهاية العمر؟ لست أدري!!
في الختام نجد بين طيات هذا الكتاب حياة ملئية بالتجارب والعواطف والانفعالات الشخصية التي عاشتها الكاتبة، مليئاً أيضاً بحياة أناس عاشوا معها ومروا في حياتها ويطلعنا على تفاصيل مرت بها البلاد من تطور وتقدم وتراجع في بعض المواضع انتقالاً إلى الشخصيات الكبيرة التي عاصرتها والأحداث السياسية التي مرت بها، نجد معلومات غنية ولطيفة عن سورية مشبعة بالأحاسيس العميقة والعاطفة الصادقة، ونرى مدى تلاحم الأديان في دمشق وحواريها القديمة حيث تنصت لصوت المؤذن في المسجد الأموي، وتصلي في الكنيسة المريمية لتمشي في طريقها المستقيم حيث مشى بولس الرسول إلى الباب الشرقي لينشر الدين المسيحي في العالم، تحدثنا عن النذور في دير السيدة العذراء، وعن اللغة الآرامية لغة السيد المسيح التي ما زال أبناء تلك المنطقة يتباهون بها. تصف لنا البيوت العربية الشرقية وأشجار الليمون فيها والكباد ودالية العنب والتينة والياسمينة، البحرة المستديرة في وسط الدار يتدفق من نافورتها ماء بردى العذب.
علا أحمد