سقوط في اختبارات التنمية
لا تسقط التنمية ومتطلباتها بالتقادم عادة، والاستحقاقات الملحّة لا تقبل مطلقاً الانطواء في قوائم المنسيّات، مهما تزاحمت الأولويات وتصارعت، ولو في ظروف اكتسبت صفة الاستثناء كظرفنا الراهن.
في سياق مثل هذه المسلّمات لا يبدو الاستفسار عن ملامح البعد الزراعي في مسارات تنميتنا المزعومة، تصيّداً ولا انتقاداً لمنظومة الأداء التنفيذي، بل هو إلحاح الوقائع الملوّنة بلون الخصوصية السورية ذات “الطعم” الزراعي، مهما ذهبت بنا التصوّرات المتفائلة بعيداً عن هذه الحقيقة، رغم إيماننا المطلق بخاصيّة التنوع التي يحظى بها اقتصادنا، لكن لإملاءات الطبيعة وميزاتها النسبية والخالصة، حضورها الذي لا نملك إلا الاعتراف به أولاً، ثم استثماره بحذاقة ثانياً، والزراعة هي قطاع الواجهة وإن كابر مناصرو الريعية ودورات رأس المال السريعة.
وإن تمعنّا بهدوء في الملف الزراعي، سنجد أن واجبات الحكومة الحالية تنحصر في الحيز الاستدراكي، لما أتت عليه – تقويضاً – سياسات سابقاتها، التي انحدرت بمساهمة هذا القطاع من 34 عام 2005 إلى 17 بالمئة عام 2010، وهو تقهقر مريع في الحقيقة، مرّ بصمت مريب وسط ضجيج التهليل لأرقام مزيفة بشأن معدلات نمو الناتج الإجمالي، والتصفيق احتفاءً بمباركات صندوق النقد الدولي لـ “نجاحات” الليبرالية السورية الجديدة آنذاك، رغم أن ثناءات “الصندوق الأسود” كانت تكفي كقرائن إدانة لإشعال فتيل الهواجس و”ظنون حسن الفطن”.
أخطأ السابقون – أو تعمّدوا – التعاطي مع النطاق الزراعي بعقلية التاجر، فنسفوا أهم حامل تنموي وتسببوا برضّ اقتصادي واجتماعي قاسٍ، ونذكر أن الطبيعة تحالفت معهم آنذاك، وأنتجت لهم غطاءً وشماعة عملاقة اسمها الجفاف، وكان هذا الأخير هو المتهم وليس سواه؟!.
المهم الآن الاستدراك وليس تقليب المواجع والردح حيث لم تعد الوجدانيات تنفع، فماذا فعلنا استدراكاً، أو ماذا أعددنا؟.
الواقع أن المسألة، رغم حساسيتها وخطورتها، ليست معقّدة كثيراً، إذ يكفي أن نسلك طريق سياسات راجع، معاكس تماماً لاتجاه رحلة “التقويض” أو ما يسمّى مرحلة “ذبح البقرة الحلوب”، وعلى الأرجح ما زال أصحاب الذاكرة المتوقّدة في وزارة الزراعة، يذكرون تماماً ملامح المشهد السابق، ولعلهم ينتظرون من يكلفهم الإفصاح عن رؤيتهم الإصلاحية، ومن المفضل أن يعهد إلى قدامى خبراء الزراعة بهذه المهمة، مع أنها ليست عصيّة على أي مراقب أو إعلامي متخصص، عاصر حقبة النماء بذهن صاحٍ.
لسنا ضد الاستثمار السياحي، لكننا نخشى انحرافات بوصلة التنمية باتجاه قطاع ينطوي على المزيد من مساحات الاستعراض الأجوف. وليس لنا أي تحفّظ على إعادة إنعاش المدن الصناعية، بل نغتبط لأرقام العائدات التي تدفع بها إدارات هذه المدن حالياً، وهي في الواقع نتائج جهد تنفيذي استدراكي يستحق التقدير.
لكن أرقام التوظيفات النقدية الجديدة في القطاع السياحي، والأخرى في “نخبة” المطارح الصناعية، ولا سيما تجميع السيارات، هي ما استفز في أذهاننا التساؤلات عن حصّة الزراعة من مجمل هذا الحصاد التنفيذي “الثمين”، وكم مشروع تصنيع زراعي، جديد أو مجدّد، يمكننا رصده حتى الآن على امتداد البلاد وخصوصاً في المناطق المستقرّة منها؟.
وهل علينا انتظار مبادرات حائزي الكتل الرأسمالية الكبرى باتجاه التطوير الزراعي، ونحن ندرك أن مثل هذه المبادرات لم تحصل ولن تحصل بشكل عفوي، أي بدون توجيه حكومي واشتراطات تربط منح الفرص “الامتيازية” بحصص استثمارية في الزراعة أو على الأقل التصنيع الزراعي.
ناظم عيد