التنوير والتثوير حاجة لمواجهة التزوير والتكفير
أ. د. أسعد السحمراني
يعيش الوطن العربي ودائرته في العالم الإسلامي، أو الدائرة الأفروآسيوية، حالة من الفوضى التي تسببها مشروعات وأطماع استعمارية، يأتي في رأس قائمتها الاستعمار الصهيوني الاستيطاني الإحلالي الذي يغتصب فلسطين وفي قلبها القدس، وإذا درس العارف موقع الكيان الإسرائيلي الغاصب سيجد جملة حقائق ووقائع ترتبط بالجغرافيا السياسية وقد ارتبطت بهذا الاحتلال الذي بدأ صهيوأوروبياً، وبات اليوم صهيوأمريكياً، وهذا يؤشر على مستوى العمق في الدراسات الاستعمارية الطامعة بهذه الدوائر الثلاث: الدائرة القومية العربية، والدائرة الإسلامية، والدائرة الأفروآسيوية.
إن الموقع الاستراتيجي لفلسطين جعلها في دائرة الخطر، وقد التقت على اغتصابها الإرادات الصهيونية العنصرية والأوروبية الطامعة، لأنها تصنف البحر المتوسط استراتيجياً على أنه بحيرة أوروبية، ومعها الإرادة الأمريكية في واشنطن، فهي وريثة أوروبا حضارياً من جهة، وقيادتها وتيار عريض فيها متصهينون، أما الموقع الاستراتيجي لفلسطين فقد أشارت إليه وثيقة كامبل بنرمان التي أصدرتها لجنة المستعمرات الأوروبية: (بريطانيا، وفرنسا، واسبانيا، وبلجيكا، ودول أخرى صغرى)، في عام 1907م بعد سنتين من الدراسة، وتشير الدراسة صراحة إلى الأمة العربية ومقومات وحدتها، وتحرّض على اغتصابها ليكون احتلالها عائقاً مانعاً لوحدة الأمة، وهي الرابط بين شطري الوطن العربي: الشطر الأفريقي، والشطر الآسيوي، لكن الأمر نفسه ينسحب على أن هذا الاغتصاب يشكّل سداً مانعاً للتواصل في العالم الإسلامي في محور طنجة جاكرتا، كما أن فلسطين على خط الوصل بين قارتي أفريقيا وآسيا، هذا غير ما تتميز به من موقع ديني، وهي حاضنة لمقدسات المسيحيين، وللأقصى، والحرم الإبراهيمي، والكثير من المقدسات الإسلامية.
أما العامل الآخر في مسببات الفوضى فهو العامل الفكري على مستوى الفكر الديني، والفكر السياسي، والفكر الاقتصادي، والفكر التربوي، وغيرها، وهذه الفوضى الفكرية التي استفادت من التقدم في وسائل الإعلام ووسائط الاتصال أنتجت ظلامية طغت على عقول فئات واسعة، وكانت بسببها فتن وشرور زرعت القتل والدمار والتخريب، حيث تجول الإنسان في هذه الدوائر الثلاث آنفة الذكر.
أمام هذا الواقع “المعيوش” من الفوضى والتزوير والظلامية والتكفير أصبحت حالة من الضرورة القصوى، وهي الحاجة إلى مواجهة عمادها مشروع فكري، له مهام متنوعة، لكن غايته الأساسية مواجهة الأمر الواقع الذي خلّف ما هو باد للمراقب، لأن الأمم المتحضرة والشعوب الحية لا مكان في قاموسها لشيء اسمه الاستسلام للأمر الواقع، بل نهج المقاومة هو الاختيار السليم، والمنهج الوحدوي هو الرافعة لتحرير الأمة من الغاصبين المحتلين، ولتخليصها من مجاميع خدموا الأعداء بجهلهم وارتزاقهم وتبعيتهم وعمالتهم لأعداء الأمة.
التزوير والتكفير
تشهد ساحات الوطن العربي والعالم الإسلامي لا بل العالم قاطبة حالات من الأطروحات الفكرية الظلامية، سواء منها ما هو سياسي أو فكري يتجلبب بجلباب الدين أو ما هو اقتصادي وتربوي، وما هو منه في ميدان الآداب والفنون، وقد قاد هذا الفكر حالك الظلمة إلى فوضى وانحطاط في مستوى عدد غير قليل ممن يتصدرون للقيادة والوجاهة، كل هذا نشر الفوضى وحالات الاقتتال وخلّف الخراب والدمار، وإذا أردنا التحديد فإن عوامل بروز التزوير والتكفير تظهر من خلال الوجوه الآتية:
1- الدور البريطاني- الأمريكي: مصدر التزوير الأول في القرنين الأخيرين هو بريطانيا ووريثتها استعمارياً الولايات المتحدة الأمريكية، فبريطانيا بلد المنشأ لكل الحركات المشبوهة والهدامة، وهي أول موقع ظهر فيه مصطلح (أصولية FONDAMENTALISME) إشارة إلى التطرف الديني الذي التزمه انكليز خاصموا الكثلكة بعد أن انتقل الملك هنري الثامن عام 1538م إلى البروتستانتية، وبرز فيها التطهريون PURITAINS وهم من أخذوا بحرفية نصوص العهد القديم، وغالوا في التعصب، والنيل من كل من لا يوافقهم الرأي والموقف، وعندما اغتصبت بريطانيا بلداناً كثيرة واستعمرتها، عملت على تصنيع حركات أو شخصيات ترتدي أزياء مجتمعات أممها، ولكنها محشوة بمفاهيم وأفكار تخريبية تتستر وراء الدين، وليراجع المهتم منشأ معظم الحركات والجماعات الهدامة أو التكفيرية، وسيصل إلى هذه النتيجة، وقد ورثت الولايات المتحدة الأمريكية عن بريطانيا أسلوب العمل التخريبي نفسه.
2- أشخاص ساعدهم الأجنبي الاستعماري على الظهور والنجومية كي يصبحوا محل قبول عند قطاعات واسعة من الناس هم وأفكارهم، ومن النماذج التي كان لها دور في معظم الحركات التكفيرية والإرهابية المنتشرة هذه الأيام هنا وهناك كل من أبي الأعلى المودودي وسيد قطب الذي تأثر بأفكاره.
إن ما تشهده الساحات من جرائم يمارسها التكفيريون، إنما كان بتأثير أفكار شوهاء، لا تستند إلى فهم سليم، ولا فكر رشيد، ولا فقه سديد.
وللبيان لا بد من ذكر بعض ما قلاه أبو الأعلى المودودي، وتجدر الإشارة إلى أنه لم يدرس وفق منهج أكاديمي، ولا منهج التعليم العتيق، ولا هو اعتمد ما سبق إليه السلف من تفاسير وعلوم قرآنية أو حديثية، ولا استند إلى الفقهاء بمن فيهم من صاغوا نظريات في الفقه السياسي، وكذلك سيد قطب الذي درس الأدب في القاهرة، وسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليكمل الدراسات العليا في الآداب، وهناك تعرّف على أشخاص من أتباع المودودي، ومال إلى فكره، وعاد إلى مصر ليشكل أحد أتباع هذه المدرسة الفكرية غير المسبوقة- اللهم إلا من الخوارج- وكان له الأطروحات نفسها.
المودودي وقطب مؤسسا المدرسة التكفيرية
لا تحتاج كتابات المودودي وقطب لكبير عناء إدراكي من أجل أن يعرف المعني كيف أن ما طرحاه كان النبع الذي صدرت بنتيجته سيول الفكر المتطرف الذي بلغ الدرجة القصوى من الغلو والتعصب والتكفير للمخالف، وهما من أسسا لفكر الكراهية الذي يدفع ثمنه هذه الأيام.
صاغ المودودي صفحات لا تزيد عن الأربعين تحت عنوان: (المصطلحات الأربعة في القرآن: الإله- الرب- العبادة- الدين)، وما قاله أن العرب يوم نزول القرآن كانوا أهل بلاغة، ولذلك عرفوا دلالة هذه المصطلحات، ودخلوا في الإسلام، أما في القرون اللاحقة، فقد خفي على الناس معظم تعاليم القرآن الكريم، وغابت عنهم روحه السامية، والسبب أمران:
أ- قلة الذوق العربي السليم، ونضوب معين العربية الخالصة في العصور المتأخرة.
ب- إن الذين ولدوا في المجتمع الإسلامي، ونشؤوا فيه لم يكن قد بقي لهم من معاني كلمات الإله والرب والعبادة والدين ما كان شائعاً في المجتمع الجاهلي وقت نزول القرآن.
هذ الكلام ورد في الصفحة (9) وما بعدها من طبعة (الدار السعودية) في جدة في عام 1995م بتعريب السيد محمد كاظم سباق، لأن المقالة كان قد كتبها المودودي باللغة الأردية، والسؤال: كيف يحكم المودودي على العرب بتراجع الذوق اللغوي عندهم، ومستوى بلاغتهم، وهو يكتب بالأردية؟! ثم هل يجوز لأحد أن يتهم مئات الملايين بالجاهلية، ويصدر حكماً بتكفيرهم؟!.
ثم ذهب المودودي إلى إنكار الانتماء الوطني والقومي، وطرح مصطلحاً هو (الدولة الفكرية)، فقال: “فأول ما ظهر من خصائص الدولة الإسلامية التي تمتاز بها عن غيرها أنه ليس لعنصر القومية حظ في إيجادها وتركيبها، وإنما هي دولة فكرية مؤسسة على مبادئ معينة واضحة، أما الدولة الفكرية القائمة على مبادئ وغايات، بحيث من قبلها وأعرب عن استمساكه بها أصبح مشاركاً في تسيير دفتها من غير أن ينظر إلى جنسيته أو سلالته”، (منهاج الانقلاب الإسلامي في طبعة الدار السعودية في جدة لعام 1988، في الصفحة 12، 13).
الدولة الفكرية بدعة لا واقعية لها، إذ كيف تكون دولة بلا أرض ولا شعب ولا مؤسسات لها هيكلية واختصاص وحدود واضحة؟.. ثم هذا الفهم هو الذي أعطى المسوغات لشراذم المقاتلين المسلحين بالجهل والتعصب والدعم الاستعماري كي يتنقلوا من بلد إلى آخر، ويعيثوا في الأرض تقتيلاً وتخريباً.
ويكمل المودودي في طرح آخر لا يقل خطراً عن الأول هو (الدولة الثيوقراطية)، أو الدولة الدينية التي تدار فيها شؤون الحكم باسم الله تعالى، وهذه الدولة غير قائمة اليوم إلا في مشروع الصهاينة فيما يسمونه: (الوطن القومي اليهودي)، وقد قال المودودي: “والمزية الثانية للدولة الإسلامية أن الأساس الذي يقوم عليه بناؤها تصور مفهوم حاكمية الله تعالى الواحد الأحد، وأن نظريتها الأساسية أن الأرض كلها لله تعالى، وهو ربها المتصرف في شؤونها، فالأمر والحكم والتشريع كلها مختصة بالله تعالى وحده، وليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو شعب، بل لا للنوع البشري كافة شيء من سلطة الأمر والتشريع”، (منهاج الانقلاب الإسلامي، في الصحفة 17).
هذا الفكر المودودي المؤسس للكراهية والتكفيري ظهر بشكل أكثر وضوحاً مع سيد قطب الذي قال: “نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية.. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم”، (معالم في الطريق طبعة دار الشروق في القاهرة لعام 1979، في الصحفة 17).
هذا الاتهام المعمم على الكل بالجاهلية طرح تكفيري للمجتمع، وكل ما يسوده، ومنه استقت كل الحركات التكفيرية.
وقد تابع قطب أستاذه المودودي كذلك في إنكار الانتماء الوطني والقومي ليقول بالدولة الفكرية، فكان قوله: “وطن المسلم الذي يحن إليه، ويدفع عنه ليس قطعة أرض، وجنسية المسلم التي يعرف بها ليست جنسية حكم، وعشيرة المسلم التي يأوي إليها ويدفع عنها ليست قرابة دم، وراية المسلم التي يعتز بها ويستشهد تحتها ليست راية قوم”، (معالم في الطريق، في الصفحة 144)، والسؤال هنا: كيف يكون هذا التنكر للانتماء، والنبي عليه الصلاة والسلام وصحابته قد تحرّك فيهم الحنين لمكة أرض المولد والنشأة يوم الهجرة، وكيف تكون دولة بهذا المفهوم وفي الجانب العملي (صحيفة المدينة) يوم الهجرة وأساليب اختيار الحاكم، والاجتهاد الفكري والفقهي في السياسة، وفي كل ميادين التشريع وأبوابه؟.. هنا مكمن الخطر عند المودودي وقطب، ومن نبعهما شرب وارتوى المتطرفون، والغلاة، وحملة فكر الكراهية والتعصب، ومارسوا انتهاك الحرمات.
الدور الأوروأمريكي في صناعة الغلو
إن حركة التزوير الفكري التي أنتجت حركات الغلو والتطرف والتكفير كانت في الغالب صناعة أوروأمريكية، أو أنها تغذت بأموالهم وإعلامهم وحضانتهم، والمراجع لنشأة الحركات والفرق التخريبية المعاصرة بمختلف مسمياتها يكتشف ذلك من غير كبير عناء، وقد كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث إن ممارسات الأوروأمريكان ومعهم الصهيونية ضد الأمة العربية، وفي قلبها فلسطين التاريخية وعاصمتها القدس، وضد معظم دول وبلدان قارتي أفريقيا وآسيا، وأمريكا اللاتينية، قد أحدثت ارتدادات تشكلت في أفكار وحركات غير محسوبة خطواتها، فكان ما كان من حالات التف عليها الصهيوأمريكان، وجنّدوا قسماً منهم للتخريب في الأمة، وقد اخترقوا المجتمعات العربية وغيرها تحت ستار التنمية والمساعدات، أو المنح الدراسية، أو مزاعم أخرى كالبحث والدراسات، ومن هنا كانت لهم السانحة ليعرفوا نقاط الضعف والقوة، وقد مكنهم ذلك من اختراق الانتظام العام ومؤسساته، ومن يفحص العمل الأهلي يجد أن عدداً غير قليل من الناشطين على مستوى الأفراد أو الجمعيات قد ارتبط بوكالة التنمية الأمريكية ومثيلاتها ليكون بذلك أداة تزوير وتخريب بيدها، والمستغرب أن تسكت الدول العربية وفي بلدان أخرى عن مثل هذه التدخلات السافرة في سياداتها وشؤونها الداخلية، وإذا قال قائل: لكن هذا من أجل التنمية والسلام، يكون الجواب لا يصون الأوطان، ولا ينجز أبنية الحضارة، ولا يقوم بمهمة تحرير الأرض المحتلة تابع وعميل مرتزق عند الأجنبي.
استغلال الدين من الجهلة وأشباه العلماء
قال شكيب أرسلان (ت1946م) في كتابه: (لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم؟): “ومن أكبر عوامل انحطاط المسلمين الجمود على القديم، فكما أن آفة الإسلام هي الفئة التي تريد أن تلغي كل شيء قديم دون نظر فيما هو ضار أو نافع، كذلك آفة الإسلام هي الفئة الجامدة التي لا تريد أن تغيّر شيئاً، فقد أضاع الإسلام (جامد وجاحد)”، (طبعة دار النفائس ببيروت لعام 2016 في الصفحة 125).
وقال شكيب أرسلان: “كذلك من أعظم أسباب تأخر المسلمين: الجهل الذي يجعل فيهم من لا يميز بين الخمر والخل، ومن أعظم أسباب تأخر المسلمين: العلم الناقص الذي هو أشد خطراً من الجهل البسيط، لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشداً عالماً أطاعه، ولم يتفلسف عليه، فأما صاحب العلم الناقص، فهو لا يدري، ولا يقتنع بأنه لا يدري، وكما قيل: ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف مجنون، أقول: ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلائكم بشبه جاهل”، (في الصفحة 114).
هذا المثلث المؤلف من جامد وجاحد، وشبه عالم هو الذي جر على الأمة العربية، لا بل على العالم الإسلامي، والعالم كله بلاء التكفير وداء التعصب، وانتشرت بسبب ذلك الفتن والجرائم غير المسبوق،ة وحصل ما حصل من دمار وخراب.
فوضى الانتساب إلى الإطار العلمائي
الاختصاص ضرورة من أجل تنمية الإنتاج ودقة العمل والنبوغ والابداع رافعة للاكتشاف والابتكار والاختراع، ولتقديم جديد في كل ميدان من ميادين العلوم والآداب والفنون.
لكن كل اختصاص وعمل اجتهادي في مجال معرفي، يحتاج لمقومات لا بد من توافرها في الشخص الذي يتصدى لهذه المهمة، لكن المشكلة الكبرى والداء الذي لا برء منه، حين يقوم طبيب الأسنان بمهمة مهندس المباني والطرقات والجسور، وعندما يحاضر الشاعر المتميز في اختصاصيي الجراحة، أو إذا باشر الطبيب المتفوق في اختصاصه إلى التنظير في العلوم السياسية، أو القيام بمهمة المشترع في القانون.
والكارثة الكبرى حين يكون الأمر في أبواب العلوم الدينية، وإصدار الفتاوى والأحكام الشرعية، وسيجد المراقب أن الناس يردون الأحكام، أو الأعمال إلى المختصين في غالب شؤون حياتهم من بناء المنازل، وصيانة السيارات إلى الأعمال الصحية والاستشفائية، لكن هؤلاء أنفسهم إذا جاء دور الكلام في موضوع ديني تجدهم قد تحولوا إلى انتحال منصب المفتي، أو المجتهد، أو القاضي الذي يتمادى في إصدار الأحكام، وإذا يممت شطر الانتساب إلى سلك الدارسين للعلوم الدينية ليكونوا بعدها في منصب الخطابة والوعظ والإمامة تجد الناس قد رشّحوا للمهمة من لم ينجح في التحصيل العلمي، أو من ضاقت به السبل، أو من لم يدرس أي مرجع سيرته وأمانته واستقامته.
هناك ممن تصدروا الصفوف وقد ارتدى ثوب العلمانية، وهو غارق في الجهل، ومصاب بالتعصب والغرور، ولا ثقة به ولا بذمته، وقد لا يصلح كي يأتمنه أحد على دكان بقالة أو حانوت عطورات، فكيف يصح أن نأمنه على الدين؟.. من هذا الاتجاه كانت الفوضى الفكرية وحركات تزوير الحقائق، ومن هذا كله تغذت الحركات التكفيرية التي أهلكت الحرث والنسل، وعاثت فساداً في الأرض.
التنوير والتثوير هما الحل
التنوير أو النور شعاعات خير، وبيان غوامض وملتبسات، وجلاء حقيقة وكشفها، وتقديم جديد وفق الأصول المعتمدة، ومن التنوير ما هو مراجعة نقدية لما هو موجود أو موروث، ومن التنوير ما يكون عمليات استشراف مستقبلية تفتح للوطن والأمة والأجيال السبل باتجاه مستويات أنقى وأرقى.
كما أن لوازم التنوير، وأخص خصائص المفكر التنويري، أن يهجر الفئوية وكل أشكال التعصبات والعصبيات، وأن يرى الأمور من كل جوانبها، وبالقدر المستطاع من الموضوعية، وأن تشمل أعمال التنوير وفوائده كل الناس، فلا احتكار مع التنوير، ولا أنانية أو انعزالية باسم التنوير.
أما سبب الربط بين التنوير والتثوير فإنه عملية تحويل القول إلى فعل، والنظرية إلى تطبيق، والأفكار إلى أعمال، فالفكر المتنور أو المستنير تتجلى قيمته، وتحصد الأوطان ثماره ومواسمه عندما يتمثّل حركة شعب باتجاه التغيير، وحركة الشعب التغييرية هي الثورة، ولا ثورة بلا مؤسسات، لأن حركة الفرد تصبح حالة انفعال من فرد ضد المجتمع بأكمله، لذلك تصبح الحالة المرجوة تنويراً فكرياً، ومؤسسات سياسية وأهلية، ونقابات واتحادات تحمل هذه الأفكار وفق خطط واستراتيجيات محسوبة خطواتها في حركة المجتمع أو معظم منسوبي الوطن والأمة باتجاه الأهداف الثورية التي صاغها قادة الفكر والرأي، وإذا كان من المفيد تحديد سمات ومقومات التنوير فكراً وحركة فإن الأساس فيها ما يلي:
1- المفكر التنويري يكون من أهل الاختصاص، وراسخ المعارف في مجال نشاطه العلمائي، مع اطلاع على كل ما هو جديد، وله ارتباط في ميدانه، ويكون صاحب خبرة، ومتمرناً بالقدر الكافي في معالجة الملفات والمسائل المعروضة عليه، وهو مجرد عن الأهواء والمكاسب والمصالح الشخصية، متحرراً من كل قيد إلا قيود الانتماء الوطني والأمانة والروح المسؤولة.
فالمتنورون الأحرار هم الذين يجهرون بالحق، ويشهرون من المواقف ما يمليه الواجب، وواجب المتنورين من المثقفين ألا يخلدوا إلى الراحة متذرعين بالخوف من جهة ما يمارس التعسف والاستبداد، إذ الصحيح أن مهمتهم هي مواجهة كل مستبد، أو كل من يحاول استعباد أحد أو اغتصاب حقوقه، فالعلماء هم المنبه الذي يوقظ العامة من غفلتهم، وإلا سيظلون في رقادهم، وعندها تتصل حياتهم بالموت.
2- الفكر التنويري فكر لا فئوية ولا تعصب معه، وتختفي مع وجوده كل أشكال طرح الأحادية في الانتماء، فلا طائفية مع التنوير، ولا مذهبية، ولا عرقية، ولا جهوية، ولا آفاق ضيقة، بل هو التزام بالأصل في السنن الكونية الذي هو التنوع، فالمفكر التنويري يقبل الآخر المخالف في الرأي والموقف، ولا مساحة مع التنوير لفكر الكراهية، وإنما انفتاح وسماحة مع كل مكونات مجتمع الأمة والوطن.
أما معيار القبول أو الرفض فهو ما ورد في الآيتين الكريمتين: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين* إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون»، سورة الممتحنة، الآيتان 8-9.
وبناء على النص القرآني يكون غير المقبول هو الصهيوني الغاصب لفلسطين، وشريكه الأمريكي، ومعهما القوى التكفيرية.
3- الحركة التنويرية مسؤولية الغيارى على الوطن والأمة، ومن يدفعون التعديات والتحديات التي تحتل الأراضي، وتدنس المقدسات، وبذلك لا تنوير خارج إطار ثقافة المقاومة وفكر المواجهة، هذا مع السماحة والاعتدال، والعمل لنشر الفضائل ومحاسن الأخلاق، والحركة التنويرية تؤسس لمجتمعات تقوم السلطات فيها على أساس العدالة والحرية وكرامة الإنسان، وهي حركة تعلي من شأن العقل، وتؤمن أن التفكير فريضة، خاصة الفكر الرشيد الذي يدخل في العملية التعليمية والتربوية لتكون مخرجات التربية ومؤسساتها أجيالاً واعدة، ومثل هذا الفكر هو الذي يكون زاخراً بالإيمان والعلم.
4- تشكّل وسائل الاتصال والإعلام معيناً مهماً للتواصل، ونقل المعارف، وتعميم الخبرات، لكن في الوقت نفسه قد تكون مصدراً للرذائل والمفاسد ووسائل الاتصال الاجتماعي باتت، وكأنها وسائل انفصال، لأنها شغلت الملتقيات عن الحوار وتبادل الرؤى والمعارف والخبرات، وهذا بات عبئاً حتى في الأسرة، فقد لعبت دوراً تفكيكياً لأوصال الأسر وروابط الود بين أصحابها.
أما الإعلام فقد لعب قسم منه أدواراً في التزوير، حيث أعطى الإعلام نجومية لبعض الأشخاص كي ينبهر بهم قطاع واسع من الناس، وبعدها قاموا بنشر اتجاهات فكرية كانت لها نتائج غير محمودة العواقب.
وإذا كان أحد منا لا يريد أن يقيّد الحريات ومنها حرية الإعلام، إلا أن المطلوب إعلام مضبوط بالمقاصد السامية وموظف لما فيه مصلحة الوطن والمواطن وله حرية مسؤولة، لكنه إذا ترك بلا قوانين وضوابط يصبح باباً لنشر التزوير والانحرافات باتجاه الإفراط أو التفريط.
5- إن حركة الفكر التنويري تحتاج معها إلى المأسسة، لأن المؤسسات يكون عمرها أطول من عمر الأفراد، كما أنها تكون موقعاً لحشد الطاقات والخبرات، وهذا يسهم في الإنجاز بقدر أكبر وبمستوى أفضل.
والمؤسسات التنويرية هي من يمارس الاتصال الجماهيري من خلال خطاب مسؤول يطرح الممكن، ويكون معه تخطيط مع برامج واستراتيجيات، وتتشكل من خلال المؤسسات إدارات وقيادات هي من تسير بالأمة إلى بر الأمان.. إن الواقع العربي المعاصر يحتاج لمفكرين هم في موقع الطبيب الذي يبدأ من تحاليل وتشريح للواقع، وبعدها يعمد إلى الشورى بأوسع مجالاتها مع كل ذي خبرة ورأي تمهيداً لاستنباط الحلول المناسبة في ميادين السياسة والاقتصاد والأمن والصناعات والفنون والتربية والإعلام إلى الميادين الحياتية كافة.
6- يبقى واجباً على التنويريين العرب ترسيخ المنهج الوحدوي والتربية على نهج الائتلاف بين كل مكونات مجتمعات الأمة وفي كل بلد، وهذا أساسه الوحدة الوطنية التي تعالج كل حالات التطيف والتمذهب والتعصب، وتؤلف بين أبناء المجتمع على أساس التنوع، وأن الوطنية بالأساس لا عصبيات معها، فالتنويرية العربية ثورة على كل معوقات التحرير والوحدة، وعمل من أجل طرد الاحتلال من فلسطين التاريخية ومن كل بقعة أو حق مغتصب، والتنويرية نفي لكل ظلامية نشرها الغلاة من المتطرفين ممن التزموا الموروثات الميتة أو الوافد الأجنبي المسموم، والتنويرية وطنية في إطار العروبة الحضارية الجامعة.
أستاذ العقائد والأديان المقارنة في جامعة الإمام الأوزاعي- بيروت