أخبارصحيفة البعث

رؤية مستقبلية

 

د. خلف المفتاح

منذ أكثر من قرن ونصف جرى الاشتغال على مشروع نهضوي عربي، وتصدّى لصياغة ذلك المشروع المفترض كتاب ومفكّرون ومثقفون من مختلف الأقطار  العربية، وحدّدت ملامحه الأساسية والتحديات التي تواجهه في ست معضلات، فرضت نفسها على الواقع، وهي: الاحتلال، التجزئة، التخلّف، الاستغلال، الاستبداد، التأخّر التاريخي، تقابلها الوحدة والتنمية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، منظوراً إليها من زاوية ما هو حاصل في تلك المرحلة التاريخية، ولعل صياغة رؤية ذات طابع استراتيجي للتعامل مع تلك المعضلات يحتاج إلى تحديد جهد فكري استراتيجي، تشارك فيه القوى السياسية والمجتمعية الفاعلة على الساحة القومية، بتشكيلاتها وألوانها الأيديولوجية، على قاعدة أن ثمة قواسم مشتركة تتفق عليها، بغض النظر عن تراتيبيتها كأولويات يشتغل عليها على الصعيد القومي، انطلاقاً من القناعة أن ثمة تلازماً وترابطاً يجعل من كل واحدة منها مقدّمة ضرورية تمهّد الطريق للأخرى، وتؤدي بالنتيجة للوصول إليها.
ولا شك فإن نظرة نقدية لأسلوب عمل القوى السياسية وتياراتها المختلفة على الساحة القومية تشير إلى حقيقة أن المواجهة والتعارض بين تلك التيارات الفكرية كان هو السمة الغالبة على أسلوب تعاطيها، في إطار كسب قاعدة جماهيرية للاستراتيجيات والمشاريع التي طرحتها، سيما التيارات القومية والليبرالية والاشتراكية، فكل واحدة منها وجدت في مشاريعها الفكرية وأيديولوجياتها الأكثر تعبيراً عن حاجات المجتمع ورغباته ومصالحه، وربما طموحاته السياسية، دون أن تلزم نفسها عناء البحث عن المشترك مع الآخر السياسي أو الأيديولوجي، والاشتغال على مشروع يبحث عن حامل اجتماعي واسع الطيف، وقادر أن يعكس ذلك محصلة سياسية عبر أية ممارسة ديمقراطية شفافة وفاعلة.
والحال، فتحديد عناصر المشروع النهضوي المشار إليه يمكن أن يمهّد الطريق للدعوة لتشكيل كتلة تاريخية جامعة تستوعب أغلب التيارات الفكرية الفاعلة على الساحة العربية راهناً، فإذا كانت الأحزاب القومية تركّز على فكرة الدعوة للوحدة العربية بصيغها المختلفة، وهي تمثّل الرد على التجزئة، فإن الأحزاب، ذات التوجّه الاشتراكي، تجد ذاتها في تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية والتنمية، وكذلك هو حال التيارات والأحزاب الليبرالية، التي ترفع شعار الحرية والديمقراطية والحكم الرشيد، وأخيراً تجد الأحزاب والتيارات الدينية المتنوّرة ذاتها في التركيز على هدف الحفاظ على الهوية الثقافية والروحية لشعوب المنطقة، في إطار المواجهة الثقافية الحاصلة بين دعاة الأصالة والمعاصرة.
إن الاستقلال الوطني الناجز  والتحرّر القومي يشكّل الاستجابة  الضرورية للردّ على  حالة الاستلاب الحاصلة على المستوى السياسي للكثير من الأنظمة العربية، وكذلك  الردّ على الدعوات لخرائط ضيقة، والتي باتت هي الأخرى ظاهرة مهددة بالتجزئة دون القطرية، أما الحديث عن التنمية بديل التخلّف، والعدالة الاجتماعية نقيض الاستغلال، والديمقراطية والتجدّد الحضاري بمواجهة التسلّط، وانعدام الحياة الديمقراطية الحقيقية، فلا شك أنها أصبحت من بديهيات الخطاب الأيديولوجي لأغلب التيارات السياسية، ولعل مجمل تلك الأهداف صحيحة ومتكاملة يفرضها الواقع، وإن كان ثمة خطأ، فإنه حاصل في طريقة التعاطي معها كأهداف متمايزة ومنفصلة ومتعارضة، وهنا يصبح دور القوى الحاملة للمشروع النهضوي العربي تصحيحها وتصويبها، وإيجاد حالة من التنسيق والتوافق بينها، والتمرحل في تحقيقها.