تنشر ثقافة التفكير الإيجابي مشاريع لتوجيه الشباب.. وإعادة بناء الوعي بعيداً عن العنف
في الحرب يصبح الحديث عن أي موضوع، مهما صَغُر، صعباً ومختلفاً، فالضغوطات تتضاعف، لأنك ستكون على موعد يومي مع الحزن والقلق والانتظار، وهنا تبدأ المحاولات الحثيثة لتخطي كل المصاعب، فما جرى منذ اللحظة الأولى للحرب على سورية كان بمثابة صدمة كبيرة للجميع، وبعد أن تم امتصاص وتجاوز هذه الصدمة، إذا جاز التعبير، استطاعت نسبة كبيرة من السوريين أن تتكيف مع واقع وظروف الحرب التي لم تتوقف الحياة خلالها أبداً، حتى المدن التي كانت تعاني من وضع أكثر مأساوية من غيرها، بقيت متشبثة بهويتها الثقافية، وبمظاهر الحياة الاجتماعية التي كانت تعيشها قبل الحرب إلى حدٍ ما.
الدور التوعوي
عندما تغيب المؤسسات الرسمية عن ممارسة دورها التوعوي، وخاصة في مثل هذه الأوقات العصيبة، أو عندما يكون دورها شبه مُغيّب، سيفتح المجال أمام بعض المؤسسات غير الرسمية والجهات بأن تمارس دوراً مشبوهاً لتكريس التطرف والإرهاب، ونشر الفكر التكفيري، لذلك نرى أن المشهد الثقافي والاجتماعي في سورية يحتاج وباستمرار لبذل جهود كبيرة لإعادة ترتيبه، خاصة مع وجود عدد لا بأس به من بعض المتطفلين على الثقافة لتضليل العامة عبر طرحهم لقضايا غالباً ما تناصر أصحاب الفكر الظلامي، محاولين تبرير مناصرتهم بحجج غير واقعية تُشكل وبالاً على المجتمع، هذا مع عدم نسياننا لغنى المجتمع السوري بالكثير من المبدعين في شتى المجالات الذين يمتلكون الخبرات التي يتوجب علينا توظيفها للاستفادة منها، فالسياسة العامة اليوم يجب أن تتجه نحو إدخال التنمية البشرية إلى مفاصل المؤسسات الثقافية والاجتماعية و”التربوية” بهدف إنشاء جيل واعٍ بعيداً عن لغة العنف السائدة اليوم التي فرضتها الحرب الظالمة على سورية، لذلك من الضرورة بمكان أن تقوم الوزارات والمؤسسات المعنية بما فيها وزارتا الثقافة والتربية بتهيئة الشباب السوري لإدارة حياته واستثمار طاقاته، ليكون عنصراً فعالاً في المجتمع، وأن تبدأ بالخطوات الفعلية لمثل هذه المشاريع من أجل تأهيل الطلاب لتخطيط وإدارة حياتهم بشكلٍ صحيح، وبما يضمن إنشاء جيل واعٍ بعيد عن العنف، ونشر ثقافة التفكير الإيجابي، لنتمكن من استثمار الطاقات في خدمة المجتمع والوطن، وربما أهم هدف يتمثل بالصحة والدعم النفسي والجسدي ليصبح الجيل الناشئ أكثر حباً لأنفسهم وللآخرين، وليتعلموا العطاء، وزيادة الثقة بالنفس، ربما قد يقول البعض: إن الحديث عن هذه المواضيع في ظل الظروف الراهنة لا يتعدى أن يكون ترفاً، لا قدرة لنا عليه، ولكن الواقع أن أهم المشاريع والخطط التي يجب أن نبدأ فيها ضمن خطة إعادة الإعمار هي بناء الإنسان، لأنه الهدف والغاية الأساسية اليوم، فمجريات الحرب انعكست سلباً على كل ظروف الحياة، وحمّلت الجميع المزيد من التحديات الاجتماعية والاقتصادية، لذلك الأولوية اليوم يجب أن تكون لبناء الإنسان، وبداية بناء الجيل الجديد الذي عانى ومرَّ بظروفٍ قاسية، وتعرض لأبشع صور العنف الغريبة والبعيدة عن مجتمعنا، وعلى الرغم من العبء الثقيل الذي نتحمله اليوم سنتمكن بالتأكيد من تجاوز الصعوبات والعقبات التي تواجهنا.
الاهتمام بالأولويات
الاهتمام بالأولويات الاقتصادية والثقافية، خاصة ذات الطبيعة الاجتماعية، ربما هو من أكثر الصعوبات التي يواجهها المجتمع السوري اليوم، وبالتالي إعطاء المرأة، وبالتحديد في البيئات ذات الطبيعة المتحفظة والمغلقة، اهتماماً أكبر، لأن بقاءها جاهلة هو التحدي الأكبر الذي يواجهنا، فالأم الجاهلة بحقوقها لن تستطيع إنشاء جيل متنوّر يعرف حقوقه، في ظل استمرار القيود التي تفرضها العقلية الذكورية في هذه المجتمعات التي تمنع المرأة من ممارسة دورها، ما سيؤثر حكماً على حصول المرأة على هذه الحقوق، على الرغم من التغيير الذي أصاب بنية المجتمع بسبب الحرب من حيث ارتفاع أعداد الإناث نسبة إلى الذكور، لذلك لابد من ممارسة الحماية والأمان للمرأة، ولا يمكن أن يحصل ذلك إلا من خلال تعليمها ومنحها حقوقها، فمعاناة المرأة اليوم مضاعفة بسبب الحرب، وما رتبته عليها من أعباء اقتصادية مزدوجة.. إذاً رفع مستوى الوعي الاجتماعي تجاه المرأة، وتعزيز الخطابين الإعلامي والديني الداعمين لحقوقها، وتعديل القوانين المجحفة بحق المرأة: (الأحوال الشخصية، الوصاية الجنسية، جرائم الشرف)، مع التأكيد على أن الرجل شريك أساسي في عملية التنشئة وتربية هذا الجيل، وهو ما نحتاجه اليوم وبقوة لتجاوز الوضع الحساس والدقيق الذي نمر به.
ثقافة الحياة وبناء الوطن
يرتكز المجتمع السوري على دعامات متينة هي من جعلته اليوم يقاوم ويتحمّل تبعات الحرب الظالمة التي فُرضت عليه بكل ما تحمله من صعوبات، لأنه شعب ذو تاريخ عريق، فمنذ ثلاثينيات القرن الماضي تأسست أهم الجمعيات والصالونات الأدبية والسياسية التي كان من أبرزها الرابطة الأدبية التي أسستها نساء دمشق، إضافة إلى المجلس الأدبي للسيدتين مريانا مراش، وماري عجمي، والذي كان يضم عمالقة الأدب الفكري في دمشق، والمحافظات السورية الأخرى، وجمعية نقطة حليب التي تأسست في عام 1922، والتي لاتزال تمارس نشاطها حتى يومنا هذا، والنادي الأدبي النسائي، وغيرها من الجمعيات والصالونات الأدبية والثقافية والسياسية، واليوم يتمثّل حب السوريين للحياة والعيش لبناء وطنهم وبشكل جلي وواضح من خلال مقاومتهم لكل ظروف الحرب الصعبة، وإصرارهم على ممارسة حياتهم، رغم كل المخاطر الأمنية التي تعرّضوا لها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، العاصمة دمشق التي تمثّل سورية المصغرة، ومنذ بداية الحرب عام 2011 وحتى شباط 2018، سقط على أحيائها حوالي 14800 قذيفة هاون وصاروخ، كان مصدرها من إرهابيي الغوطة الشرقية، وحصدت أرواح 11 ألف مدني، كان من بينهم 1500 طفل شهيد، إضافة إلى 30 ألف حالة لإصابات بعاهات دائمة، استطاع أبناؤها أن يقاوموا كل الظروف المأساوية، وما يُشهد له أن الحياة لم تتوقف فيها رغم كل ما مر بها، ومع كل الظروف المأساوية، كانت الإرادة لاستمرار الحياة من قبل السوريين أقوى، ما عكس أن السوريين هم أبناء الحياة، وأن وطنهم سورية هو البوصلة التي يسيرون وفق خطاها.
لينا عدره