المخفي والمنظور في الداخل الأمريكي
د. سليم بركات
يخطئ من يظن أن من أولويات الولايات المتحدة الأمريكية أن تمتلك سياسة خارجية تعامل العالم من خلالها وفق المصالح المشتركة، وإنما من أولوياتها امتلاك سياسة داخلية تنظم سياستها الخارجية على مستوى العالم وفق ما تقتضيه مصالحها الداخلية، وبما أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية تبدو مضطربة داخلياً وخارجياً، فهذا يعني وجود خلل ما في هذه السياسة، يشير إليه عدم تطابقها مع الواقع الاجتماعي الأمريكي، كما يشير إليه دور الإدارة الأمريكية الحالية في معالجة الموضوع الاقتصادي، والذي ينطلق من مبدأ أن الاقتصاد ليس سوى السياسة في المرحلة الراهنة، وهذا يتعارض مع الخيارات الأمريكية السابقة، حيث الخيارات الاقتصادية خيارات سياسية بامتياز.
من يرصد بدقة توجهات الخطاب السياسي النخبوي الأمريكي يلاحظ مواقع الخلل فيه، حيث الاختلاف بين خطاب النخبة، واهتمامات المواطن العادي، فخطاب النخبة ينصب على تلبية حاجات القوى الضاغطة التي تموّل السياسيين ومراكز الأبحاث، بينما اهتمامات المواطن العادي تنصب على خيارات محدودة بين السيىء والأسوأ، بمعنى أن أولويات النخب الأمريكية في واد، وأولويات المواطن الأمريكي في واد آخر.
من الملفات التي تقلق المواطن الأمريكي: ملف الهجرة، ملف البطالة، ملف الضمان الصحي، ملف التربية، وكلها ملفات مستعصية، سببتها إخفاقات النخب السياسية التي تغذي الاستهلاك وتشجعه، فتقييم المواطن الأمريكي على الصعيد الاجتماعي لا يستند في ظل هذه السياسة إلى مستوى موجوداته أو دخله أو سيولته، بل يستند إلى ما تقدمه له أسواق الائتمان، وهذا يعني أن قيمته كمواطن مرتبطة بقيمة رصيده المالي، وبقدرته على الاستدانة، وقد أوصلت ثقافة الدين والاستهلاك هذه الاقتصاد الأمريكي إلى حالة الإفلاس، لكن النخب الأمريكية تحاول التقليل من أهميتها مكتفية بوصفها على أنها حالة عابرة.
إن ظاهرة التحول باتجاه ثقافة الدين لها أسبابها ودلالاتها السياسية، منها فقدان الحركة العمالية للمؤسسات التي تحمي حقوقها، كما حدث في عهد الرئيس الأمريكي “ريغان”، ومنها تدني قيمة الأجور الذي حدث في عهد الرئيس الأمريكي “نيكسون” والذي يشير إلى تراجع نفوذ النقابات في حماية حقوق العمال، كما يشير إلى ما تقوم به النخب الحاكمة في مصادرة إرادة الطبقات الاجتماعية الفقيرة من خلال الاستدانة التي سمحت بتفاقم الفجوات على مستوى الدخل الفردي، وبالانقسام الاجتماعي، والتشجيع على الإثراء السريع، عبر التحول من اقتصاد إنتاجي إلى اقتصاد ريعي مالي افتراضي.
إخفاقات أخرى سببتها النخب السياسية الأمريكية يأتي في طليعتها الخلل البنيوي الذي حدث للنظام السياسي في عهد “كلينتون”، والذي تجلى بالحرص على استقلال السلطات: “التشريعية، التنفيذية، والقضائية” كي تبقى مؤسسات مستقلة، حرص أدى في عهد بوش الابن إلى محاولة تقويض صلاحيات الكونغرس في تحديد توجهات السياسة الخارجية، بما فيها القيام بأعمال عسكرية من دون الرجوع إلى الكونغرس، ولا يخفى أن هذه المحاولة كانت لتقوية السلطة التنفيذية على حساب السلطة التشريعية، ساعد بوش الابن فيها مجموعات الضغط واللوبيات المرتبطة بالمجمع العسكري النفطي والمالي والأمني، وليس قانون الباتريوت الذي يحد من سلطة القضاء والكونغرس بحجة محاربة الإرهاب، إلا تقييداً للحريات العامة التي فرضتها أحداث أيلول 2001، كانت النخب الحاكمة تحاول فرضه في مواجهة الاتحاد السوفييتي السابق منذ خمسينيات القرن المنصرم وحتى سقوطه.
التناحر القديم الجديد بين الإدارة والكونغرس هو المثال الأول للشلل في أداء السياسة الأمريكية، كما أن التناحر داخل الكونغرس بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي هو المثال الثاني في النظام السياسي الأمريكي، بمعنى لم يعد الخلاف السياسي بين الاتجاهات المتناحرة في إطار التنافس، بل أصبح في إطار الإقصاء الذي لا يخلو من الكيدية، وهذا يعني غياب الوسطية لمصلحة المتطرفين الذين يتصدرون السياسة الأمريكية في المرحلة الراهنة، وعلى حساب القاعدة التقليدية الليبرالية في المفهوم الأمريكي، أكان هذا الإقصاء سياسياً، أم اقتصادياً، أم ثقافياً، أم اجتماعياً، أم قضائياً، وهذا بدوره يوضح كيف خذل السياسيون طبقات ما دون النخبة للشعب الأمريكي، كما يشكّل دلالة واضحة لحالة الترهل القائمة في المجتمع الأمريكي.
يضاف إلى هذا التناحر تناحر آخر بين الأحزاب السياسية الأمريكية سببه النظام الانتخابي الذي يؤدي المال الدور الأساسي فيه أثناء الحملات الانتخابية المكلفة للغاية، أكانت هذه الانتخابات على مستوى الولايات، أم كانت على مستوى الرئاسة الأمريكية، حيث الأرقام القياسية في الإنفاق الذي يفوق طاقة أي مرشّح مهما كان ثرياً، الأمر الذي يظهر تمويل الحملات الانتخابية من قبل أصحاب المصالح الخاصة والقوى الضاغطة، وهذا يعني أن السياسي الأمريكي قد أصبح أسيراً للقدرات المالية وقواها، بحيث لا يستطيع اتخاذ قرارات أو تبني تشريعات تناقض مصالح الممولين لهذه الانتخابات، وفي مثل هذه الحالة تصبح الأموال وسيلة للتعبير، ولتحديد المواقف في اتخاذ القرار، ولندرك مدى خطورة هذا على الشعب الأمريكي إذا كانت وسائل الإعلام المروجة محكومة بشركات لا تتجاوز أصابع اليد، وتتبع بمجملها إلى مكونات المجتمع العسكري الصناعي المالي وفي خدمته، ولو كان ذلك على حساب مصالح المواطن الأمريكي، وهل نبالغ إذا قلنا إن المؤسسة الأمنية الأمريكية اليوم تحاول الدخول إلى عالم هذه الشركات عبر الشبكة العنكبوتية التي لا تخضع لسيطرة الشركات الإعلامية كي تراقبه بحجة مكافحة الإرهاب والمخدرات، أكان ذلك بالنسبة للمواطن الأمريكي أو غير الأمريكي.
في هذا السياق لابد من الوقوف عند ظاهرة عسكرة المجتمع الأمريكي المتنامية مع الشركات الأمنية الخاصة وامتدادها ونفوذها في المؤسسة العسكرية والأمنية الأمريكية، والتي بدأت تأخذ أبعاداً مخيفة منذ عهد الرئيس بوش الابن بعد مبادرته في خصخصة وزارة الدفاع لصالح هذه الشركات التي عملت وتعمل على مستوى العالم، ولاسيما في المنطقة العربية منذ العدوان الأمريكي على العراق عام 2003 وحتى يومنا هذا، وهل نبالغ إذا قلنا إن المؤسسة العسكرية الأمريكية الرسمية “البنتاغون” تنظر بعين الرضى إلى هذه الشركات كونها ترى فيها ملاذاً لضباطها وجنودها السابقين كي يتقاضوا رواتب ضخمة، ويتحركوا من دون قيد بحمايتها، زد على ذلك ما ينتج عن تداخل هذه الشركات الأمنية مع مؤسسات واقتصاد المجتمع الأمريكي، وحمايتها للشركات وللشخصيات البارزة، ولأصحاب الدخل العالي الذي يخلق الفجوة بين طبقات النخب والطبقات الأخرى، الأمر الذي يهدد باتساع الهوة بين الطبقات الاجتماعية الأمريكية على أساس الثروة.
الخطورة في عسكرة المجتمع الأمريكي تكمن في الفجوة المتفاقمة بين المؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية، والتي بدأت تتصاعد بعد وصول الرئيس ترامب إلى السلطة، تصاعد يخالف دستور الولايات المتحدة الأمريكية الذي يخضع المؤسسة العسكرية لقرار المؤسسة السياسية المدنية، وهذه ظاهرة تستحق الاهتمام لأنها تجد الترحيب في الأوساط العسكرية الأمريكية، وتعطيها الأولوية في رسم السياسة الخارجية، كما تجعل من الخيارات الاستراتيجية الأمريكية بمجملها خيارات عسكرية، أكان ذلك على الصعيد العسكري، أم على الصعيد السياسي، أم على الصعيد الاقتصادي، وهذا ما تشير إليه الاستراتيجية الأمريكية الجديدة القائمة على القوة في مواجهة من تعتبرهم خصومها، كما يشير إليها التصعيد العسكري الأمريكي في مواجهة إيران وسورية وباقي محور المقاومة، هذا بالإضافة إلى التصعيد الأمريكي في مواجهة روسيا الاتحادية، والإصرار على التواجد في منطقة الشرق الأوسط المخالف لكل أحكام الشرعية الدولية، بحجة محاربة الإرهاب.
بقي أن نقول: إذا أضفنا إلى هذه المخاطر مخاطر مشاعية امتلاك السلاح في المجتمع الأمريكي، وتجذّر ثقافة العنف فيه، مضافة إليها التحديات الخارجية التي تواجه سياسة الولايات المتحدة الأمريكية القائمة على المراوغة والنفاق والانحياز لـ “إسرائيل”، وجدنا أن كل هذه المعطيات قد تؤدي إلى تفجّر المجتمع الأمريكي، وإلى انهيار أمريكا كدولة عظمى، إذا لم تتخل عن سياستها هذه لصالح العامل الأخلاقي في الممارسة السياسية.