15 أيار وأم النكبات في التاريخ العربي
د. صابر فلحوط
هل ولدت النكبة الفلسطينية في الخامس عشر من أيار 1948 غداة التأسيس الرسمي للكيان الصهيوني؟ أم أن هذا التاريخ كان موعداً جديداً لصراع طويل ومرير، تجذرت إرهاصاته المبكرة في مناخات ثلاثة: الأول إصرار الغرب الاستعماري من قبل عصر النهضة، وما بعدها على احتلال القدس خلال حروب الفرنجة، والثاني استغلال الصهيونية العالمية للاستعمار العثماني الذي أناخ على صدر الأمة العربية باسم “العمامة” حيناً، والطربوش أحياناً، فكان أنموذجاً للتخلف وادعاء “السلفية” المتنكرة للسلف الصالح في الإسلام الوسطي الذي حمله للعالم خاتم الأنبياء، والثالث هو إصرار أوروبا العجوز بعدما أنهكتها المؤامرات الصهيونية داخل مجتمعاتها على التخلص من هذا الوباء، فكان وعد بلفور، واتفاقات سايكس بيكو، وما تلاها من استثمار صهيوني لما سمي بـ “الهولوكوست” الذي ابتدعته النازية المدحورة لتكنيس السرطان الصهيوني من أوروبا.. وقد وقع اختيار الغرب على فلسطين لتكون ملجأ الصهيونية الذي يحقق للغرب طموحاته في جعل المنطقة العربية بقرة حلوباً في قبضة الغرب وتحت رحمته.
وقد سبق “أم النكبات” وخلال الحرب العالمية الأولى تقسيم جسد المنطقة إلى مناطق نفوذ، حيث أصبحت سورية ولبنان تحت النير الفرنسي وفلسطين والأردن والعراق في القبضة البريطانية ليكتمل مخطط الثأر التاريخي من صلاح الدين الأيوبي وأحفاده ومحاسبتهم على اقترافهم النصر في حروب الفرنجة وتحريرهم القدس!!.
وبالرغم من أن العرب ممثلين أنذاك بأعمدة القوة “مصر وسورية والعراق” كانوا خارجين للتو من ربقة الاستعمار ليسقطوا في حفرة بقاياه وأعوانه عبر الانقلابات العسكرية بُعيد الجلاء، والحكام الرجعيين، إلا أنهم عموماً لم يأخذوا موضوعة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في الخامس عشر من أيار بالجدية التي تقتضيها أم النكبات.
ولعل من بقي على قيد القضية من جيلنا يذكر كيف كانت شعاراتنا خلال مسيراتنا الصادقة والعفوية ضد الكيان “الوليد” تشوبها العاطفة الطفولية أكثر من الفعل العقلاني المؤثر من مثل: (فلسطين بلادنا، واليهود كلابنا)، كما أنه عندما هبت الجماهير رافضة قيام الكيان تصدّر المشهد قائد جيوش العرب السبعة التي زحفت للتحرير، الملك عبد الله بن الحسين الذي أقطع له البريطانيون الجزء الشرقي من منطقة شرقي نهر الشريعة، وسموها إمارة “شرق الأردن التي أصبحت فيما بعد مملكة هاشمية”!!.
وقد كان “الملك” يستعرض الجيوش المتوجهة لتحرير المحتل من أرض فلسطين صباحاً، ويلتقي قادة العدو مساء في مسرحية هزلية تمثل على مسرح الحق والكرامة في المنطقة!!.
وقد كان يقود مصر يومذاك “ملك” يشك في انتمائه للأمة، كما كان في العراق حاكم فعلي “هو نوري السعيد” أشد خطراً على العروبة من المستعمر البريطاني نفسه، أما ملك العراق يومذاك “فيصل”، فيلخّص حالة قول الشاعر الجواهري:
(لنا ملك تأبي عصابة رأسه لها غير كف التايمزيين عاصبا)
(وليس له من أمره غير أنه يعدد أياماً ويقبض راتبا)
أما سورية، فقد توزعت جهودها بين مواجهة الانقلابات العسكرية التي أصبحت مثالاً في العالم بعد الجلاء مباشرة، وتعضيد الجبهة الداخلية بما فيها من عشائرية وعائلية وإقطاع وموروثات، إضافة إلى مؤامرة حلف بغداد وحشود الجيش التركي في الشمال السوري ومشروع ايزنهاور الذي يحاول اجتياح الجميع.
وقد سارعت أمريكا المنتصرة في الحرب العالمية الثانية إلى القبض على القضية الفلسطينية من عمقها وارثة الدور البريطاني فيها، حيث فرضت على أوروبا عموماً، وعلى ألمانيا المهزومة بخاصة، كفارة عن ذنوبها، وجزية تدفع للكيان الصهيوني جراء معاملة النازي لهم خلال الحرب العالمية، وقد فتحت بيوت المال في أوروبا عموماً لإسرائيل، إضافة إلى مختلف رسائل الدعم السياسي والعسكري والدبلوماسي والإعلامي والاقتصادي ليصبح هذا الكيان مسلحاً بأنياب نووية، وممثلاً لكل ألوان الشر والعدوان والضغوط على الأمة العربية لإبقائها في معسكر التخلف والرجعية والفرقة والفقر!!.
وتأتي الذكرى السبعون من الخامس عشر من أيار هذه الأيام، والأمة في أسوأ حال وأخطر دركات التحول نحو المجهول المفضي إلى الانهيار القاتل كما وصفها الشاعر القومي:
(أفأمتي هذي التي هُزمت وتناثرت وكأنها أُمم)
(يسطو على صنمٍ بها صنم ويغار من علم بها علم)
يا أيها الطاعون حلّ بنا فبمثل وجهك تُكشف الظلم)
غير أن الصمود البطولي الذي تصدّر مشهده شهداء الأمة في سورية العروبة في حرب تشرين التحريرية، وخلال السنوات السبع “العضوض” في مواجهة الإرهاب التكفيري الوهابي المدعوم من محور الشر الأمريكي الصهيوني النفطي، استطاع أن يعيد كتابة تاريخ الأمة بحروف الكرامة وصفحات الكبرياء والنصر، ويشكل رافعة ومدرسة للروح الوثابة، والقاهرة لصعوبات الواقع وتعقيداته والتي تجلت في الانتفاضات المتوالية التي مارسها شعبنا العربي الفلسطيني والتي لم تهدأ نارها رغم النكوص والمثبطات التي أدمن عليها مدعو العروبة وحامو هويتها زوراً، كما تمكنت المقاومة الوطنية اللبنانية الباسلة أن تصنع في سماء القضية ضوءاً ساطعاً، تجلّى في تحرير الجنوب اللبناني، وتمريغ كبرياء جيش العدو في وحل المعارك على أرض لبنان العزيز.
إن أبطال حرب تشرين التحريرية الذين يخوض جيلهم وأحفادهم الحرب الوطنية العظمى في مواجهة أكبر حرب كونية في التاريخ قديمه والحديث لدحر الغزاة والطغاة والقتلة من أكثر من مئة دولة، فهؤلاء الأبطال من جيشنا العظيم يمثلون الأمل الأخضر في المستقبل العروبي المنتصر الذي تمثل سورية طليعته المقدامة، وصباحه المشرق الذي يحقق الصحوة لأمة عربية، عمادها محور المقاومة الباسلة الذي يثبت كل يوم وعبر الانتصارات الباهرة في مواجهة الإرهاب التكفيري الوهابي الصهيوني أنه المؤهل لتحرير فلسطين من بحرها إلى نهرها، مؤكداً ألا خوف على شعبنا الفلسطيني الذي راهنوا على موت كباره ونسيان صغاره، ما دامت الأم الفلسطينية تنجب أجيالاً يتقنون لغة الحجر والمقلاع والسكين ساعة يولدون، مؤكدين عبثية قرار الرئيس الأمريكي ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس عاصمة للكيان العنصري، وأن هذا القرار لن يزيد شعبنا العربي إلا إصراراً على النصر والتضحيات، ذلك أن كل شبر من أرض فلسطين حرم مقدس، نذر المناضلون دماءهم فداء له سابقاً ولاحقاً، وحتى التحرير والعودة.