قراءة في كتاب” طرق الحرب” التاريخ العسكري الأمريكي من العصر الاستعماري إلى القرن الحادي والعشرين
ترجمة وإعداد: عناية ناصر
على مدى السنوات الماضية، وبالتحديد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، دأب كتاب الولايات المتحدة الأمريكية في محاولات كثيرة لفك شيفرات الحروب التي خاضتها بلادهم عبر العالم، وهي محاولات ربما كانت مصيبة في بعض الأحيان للتوصل إلى العقلية التي تتحكم في صنع قرار الحرب، وما هي الأسس التي تبنى عليها مثل هذه القرارات الاستراتيجية.
وفي جميع الروايات والكتب التي صدرت سابقاً، ركز التاريخ العسكري التقليدي على استراتيجية المعركة ونتائجها، لكن بمرور الوقت، اتسع المجال ليشمل جميع جوانب الحرب وتأثيرها على الأشخاص الذين يشاركون فيها بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي هذا النمط من الروايات، قدم المؤرخون العسكريون الأمريكيون مساهمات متفاوتة مثل:
– دراسة ميريون وسوزي هاريس المستفيضة في روايتهما “الأيام الأخيرة للبراءة…. أمريكا في الحرب 1917-1918″، حول تأثير الحرب العالمية الأولى على الجبهة الداخلية الأمريكية.
– مناقشة سوزان برور في روايتها ” لماذا تحارب أمريكا: الوطنية والدعاية الحربية من الفلبين إلى العراق”، كيف شكلت التصريحات السياسية والدعائية فهماً عاماً للدوافع القومية للحرب.
– تحليل كريستينا جارفيس في رواية ” جسد الذكور في الحرب: الذكورة الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية” لكيفية تصوير الجنود الأمريكيين.
سلوك القوات المسلحة
هذه الروايات لم تمر مرور الكرام، لأنها تركت انطباعات كثيرة لدى الكتاب الأمريكيين دفعتهم للغوص أكثر في ثنايا الأسرار التي لاتزال من المحرم الدخول في مناقشتها. وهنا يبدأ فضول الكاتبين إذ بعد تأثرهما بهذه التطورات، يسعى ماثيو إس. موهلبور وديفيد ج. أولبريتش في كتابهما الصادر بداية عام 2018 في نيويورك بعنوان ” طرق الحرب: التاريخ العسكري الأمريكي من العصر الاستعماري إلى القرن الحادي والعشرين” إلى تقديم تاريخ شامل للجيش الأمريكي الذي يجمع بين سلوك القوات المسلحة، لاسيما كيف تقاتل، ولماذا تخاض الحروب وعواقبها الأوسع، ودراسة العوامل السياسية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية وغيرها من العوامل.
يعتبر كتاب “طرق الحرب” أحد أهم المراجع حول الدراسات الاستقصائية عن تاريخ الجيش الأمريكي، لأنه يقدم للدارسين والقراء العاديين على حد سواء نظرة ثاقبة حول أساليب العمل العسكري، ومدى تأثير الحرب على المجتمع. وعلى الرغم من أن هدف موهلبور وأولبريتش هو تقديم دراسة تاريخية، إلا أنه يمكن الاستفادة من الكتاب في المناقشات الموسعة لمنهجية المؤلفين، وكيف ولماذا يختلف هذا الكتاب عن كتب التاريخ العسكرية الأخرى.
قد يتبادر إلى أذهان القراء السؤال التالي: ما الذي يجعل هذا الكتاب ونهجه أفضل؟ بالطبع يجب على القراء- بحسب المؤلفين- أن يحكموا بأنفسهم، لكن بعض التأكيد على الاختلاف في الجودة سيساعد على الحكم. بشكل عام، يعير كتاب “طرق الحرب” مزيداً من الاهتمام بسلوك القوات المسلحة أكثر من سبب خوض الحروب وعواقبها الأوسع. بمعنى آخر، سيكون هذا الكتاب محط اهتمام المدربين الراغبين في التركيز على استراتيجية ساحة المعركة وطبيعة الحرب. أما أولئك الذين يؤكدون على الأسباب والنتائج فقد يجدون أن هذا الكتاب الدراسي يفتقر إلى العمق المطلوب.
تطور التكنولوجيا والتكتيك
في الحقيقة، هناك عدة موضوعات مهمة تناولها الكتاب، وقام بتقديمها بشكل جيد. أولاً: ناقش الباحثان تطور التكنولوجيا والتكتيكات بشكل مستمر استجابة للظروف التي يواجهها الجيش في ساحة المعركة. إذ لا يمكن فهم الحرب دون فحص التكنولوجيا والتكتيكات المصاحبة لاستخدامها، من الخيل والبنادق والسفن في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إلى الدبابات، والطائرات النفاثة، والأسلحة النووية في القرنين العشرين والحادي والعشرين.
ثانياً: يثبت المؤلفان بوضوح أنه حتى الحرب العالمية الأولى كان هناك نفور وطني قوي داخل الولايات المتحدة تجاه الحفاظ على جيش دائم كبير. لم تكن القوات المسلحة تحتل أولوية كبيرة من قبل الحكومة حتى أواخر القرن التاسع عشر عندما أدى الحصول على مستعمرات في الخارج إلى تطوير قوة بحرية قوية. تاريخياً، غالباً ما كانت الفروع المختلفة للجيش تتعارض في كثير من الأحيان مع مسائل التمويل والموارد. ونتيجة لذلك، كان إضفاء الطابع المهني على فروع القوات المسلحة عملية طويلة ومتطورة مع سلسلة من الإصلاحات وأساليب التدريب المنفذة مع مرور الوقت، وكان التأهب يمثل في كثير من الأحيان مشكلة بالنسبة للجيش ككل. ومن أجل فهم كيف تغير الموقف الأمريكي في العالم ، من الضروري أن ندرك كيف فكر القادة السياسيون الأمريكيون والجمهور حول مكانة الجيش في الحياة الوطنية، وهنا قدم المؤلفان نظرة ثاقبة على ذلك.
أخيراً: تأثرت الولايات المتحدة بالأحداث والصراعات الدائرة حول العالم. وفي هذا الشأن تعمق المؤلفان في ماهية الحروب والتفاعلات العسكرية الأخرى التي شاركت فيها الولايات المتحدة، وأشارا بوضوح إلى أنه على الرغم من النزعة الانعزالية خلال أوائل القرن العشرين، لم تكن أمريكا معزولة حقاً، فمع تقدم القرن العشرين، تبنى الأمريكيون عموماً الدور الأمريكي كقوة عالمية.
في الواقع، يحتوي الكتاب على العديد من نقاط القوة المحددة الأخرى. إنه يعطي المزيد من الاهتمام للحروب التي خاضتها الولايات المتحدة مع سكان أمريكا الأصليين مقارنة بالكتب الأخرى في هذا المجال، مثل كتاب “التاريخ العسكري الأمريكي… دراسة استقصائية من العصر الاستعماري حتى الوقت الحاضر”، وإن لم يكن بقدر كتاب “الجيش الأمريكي.. تاريخ سردي”.
كما خص الكتاب الحرب الأهلية بشكل موسع في أكثر من فصلين، حيث تناول في هذين الفصلين مناقشة معمقة لدور الجيش في إعادة البناء والظروف في الولايات الجنوبية. كما لاقت الاستراتيجيات المنفذة في الحرب العالمية الثانية، وأحداث الحرب الباردة الاهتمام اللازم في فصلين آخرين. وبالإضافة إلى ذلك، يقدم الكتاب أيضاً اهتماماً كبيراً بقدرة المرأة على الخدمة في الجيش من خلال فصوله التي تناولت القرن العشرين وحتى الوقت الحاضر. ويلحظ من طريقة عرض الأحداث التاريخية أن هناك نظرة عامة جيدة حول كيفية تطور الجيش بعد الحرب الباردة، مع الاعتراف بأن هذه القصة غير مكتملة، ومن الصعب الحكم عليها إلا بعد أن يمر زمن أطول.
ما أغفله الكتاب
رغم أن الكتاب تناول عدة عناوين جاذبة، إلا أنه في بعض المناطق كان اهتمام الكتاب بمواضيع محددة ضعيفاً. على سبيل المثال، عندما يتعلق الأمر بما كانت عليه حياة الجنود، تم توفير المعلومات خلال القرن التاسع عشر، ولكنها كانت غائبة إلى حد كبير في القرن العشرين وما بعده. مشكلة أخرى هي أن المعلومات الأساسية المقدمة للمشكلات العرقية والثقافية غير موجودة، بينما يوفر الكتاب تغطية شاملة للحرب ضد الأمريكيين الأصليين، لكن لا توجد معلومات حول الخدمة العسكرية للسكان الأصليين لاحقاً في الجيش الأمريكي. وبالمثل، فإن المؤلفين لم يقدما الكثير من النقاش حول الوحشية التي ألحقها الجنود الأمريكيون بالسكان المكسيكيين خلال الحرب المكسيكية الأمريكية، أو الإشارة إلى أحداث شغب “زوت سوت ” خلال الحرب العالمية الثانية، على الرغم من أنهم يشيرون إلى العداء العرقي الذي يواجهه الأمريكيون الأفارقة خلال مختلف الحروب.
وأخيراً، لم يتفاعل المؤلفان مع الأدبيات حول الموضوعات الرئيسية المتعلقة ببعض الأعمال العسكرية المحددة. ففي مناقشة الطموحات الامبراطورية الأمريكية لا توجد إشارة إلى التوتر الذي نشأ مع ألمانيا واليابان حول السيطرة على المحيط الهادئ، ولم تتم مناقشة الاستيلاء على هاواي. ولا يشير المؤلفان إلى الطبيعة المثيرة للجدل للحرب الاسبانية الأمريكية، أو الخوض في تأثير التحول إلى قوة استعمارية على الولايات المتحدة. وبالمثل ، بالنظر إلى الأدبيات الكثيرة حول تطوير القنبلة الذرية والجدل حول استخدامها، فإن الكتاب لم يقدم إلا القليل من المعلومات حول هذا الموضوع. وينطبق الشيء نفسه على المفاوضات لإنهاء حرب فيتنام. ما يعني أن أوجه القصور هذه تنبع من تركيز الكتاب على طبيعة الحرب أكثر من سياق أسبابها وعواقبها، وبالتالي من المحتمل أن تستند أهمية الكتاب للباحث أو القارئ على المحتوى والتركيز المطلوب من كتاب للتاريخ العسكري.
ككتاب دراسي، فإن كتاب “Ways of War” لديه الكثير ليقدمه: خمسة عشر فصلاً، مع موقع مصاحب، يتضمن ملخصات الفصل، ببليوغرافيا توضيحية وموسعة، روابط ويب موضحة، وسرد للمصطلحات الرئيسية، وبطاقات فلاش، كما يتضمن موقع الويب بنكاً تجريبياً ومعرضاً للصور وللخرائط، كما أنه يتضمن المصادر الأساسية في كل فصل والتي تقدم نظرة عميقة لتجارب الأفراد في زمن الحرب.
بشكل عام ، يقدم “طرق الحرب” تاريخاً عميقاً للجيش والحرب في الولايات المتحدة من الحقبة الاستعمارية حتى الوقت الحاضر.
وعليه تعتمد قيمة الكتاب في الواقع على الأهداف التي سيتم استخدامه من أجلها، وما إذا كان التركيز المنشود ينصب على استراتيجية ساحة المعركة وطبيعة الحرب، أو على أسباب الحرب وعواقبها.