شـبـابيـك.. ورشـات الـسّينـاريـو
يُعرض الآن مسلسل شبابيك (إعداد بشار عبّاس، إخراج سامر البرقاوي) على قناة سما الفنّ لنفس الجهة المنتجة، وأيضاً على قناة سورية دراما. العمل الّذي كان قد عُرض على قناة مشفّرة، يُتاح الآن للجمهور، وذلك بعد أن شهد تسريباً لحلقاته أثناء عرضه الأوّل المشفّر، القناة الخليجيّة وقتها كانت تُسارع لتقتفي أثر الحلقات، وتقوم بإزالتها عن مواقع “القرصنة” في العالم الافتراضي، ومع هذا حظي بنسبة مشاهدة مقبولة، وكما يُقال: كل ممنوع مرغوب؛ سعي الجمهور للمشاهدة كان بدافع التلصّص على مسلسل ممنوعة مشاهدته بسبب شروط التّشفير، وليس بسبب جودة العمل كما قد يظنّ البعض.
الفرجة الرمضانية الآن تحدث بشروط أكثر راحة لعين المتلقّي، وذلك على شاشة كبيرة بالنّسبة لشاشة اللابتوب أو شاشة الموبايل، وهما الوسيلة الّتي كانت متاحة للمتلقّي في عرض شبابيك السّابق، فقلّة نادرة جدّاً هم من يمتلك “ريسيفر” يفك شيفرة القنوات الّتي بدأت تنهج هذه الطّريقة منذ سنوات، مما يذكّرنا ببداية انتقال مباريات كرة القدم من القنوات العاديّة إلى المشفّرة.
إنّ مشاهدة بضع حلقات من العمل تكفي لإعطاء انطباع عنه، هناك بضع حلقات مقبولة، ولكنّها قليلة نسبيا، وربما لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، أمّا المتبقّي من الحلقات، فبعضها يفتقر إلى المضمون، وبعضها الآخر يخلو تماماً من الحبكة، كما أنّ اعتماد كتّاب العمل على النهاية المفتوحة يجعل كلّ حلقة مبتورة ومن غير معنى.
النّسبة المتدنّية لعدد الحلقات لا تمنح مبرراً لذلك العدد، ولا ننسى أنّ هذا النّموذج من الدّراما (المسلسل المتّصل) قد أفل نجمه منذ مدّة، ولربّما كان مسلسل أهل الغرام الشّهير آخر محاولة ناجحة للنموذج، مع أخذ العلم أنّ نجاح أهل الغرام كان قائماً على “رابط” يوحّد الحلقات المنفصلة، القصص التي لا يجمعها شيء كمبرّر قد تجد في تكرار قصص الحب رابطاً لها، أمّا في حالة “شبابيك” من غير المفهوم لماذا يجب علينا أن نجلس ونشاهد قصصا لا يجمعها أيّ شيء.
القائمون على العمل كانوا قد كرروا مراراً أنّها قصص لعلاقات “زوجيّة” فهل يكفي ذلك؟ وهُنا لا بدّ من الإشارة إلى وهم وخلل فنّي اكتسح الدراما المحليّة وهو “ورشات كتابة السّيناريو” والّتي تتحفنا من حين لآخر بعمل من هذا المستوى، كيف يُمكن أن تقوم ورشات كهذه؟ الاسم فيه خلل وخطأ! نحنُ نعرف ورشات “النجارة” مثلاً، أو ورشات “الإكساء” أمّا ورشات السّيناريو فهذا أمر عجيب فعلاً، كيف يُمكن أن تُلحق كلمة مثل “ورشة” بنشاط إبداعي كالكتابة؟ وليس أي نوع من الكتابة، المسألة الآن “سيناريو” أي أعقد وأصعب أنواعها، ورشات السّيناريو هي الاسم الحركي لعلميّات سرقة الأفكار وسرقة جهود الكتّاب.
هذه الممارسات المضادّة للإبداع، والتي لم تكن معروفة منذ سنوات قليلة خلت، ولم تكن تشوّش على إبداع خيرة كتّاب السّيناريو الذين نهضوا بالدّراما، وذلك دون حاجة منهم لورشات سمسرة من هذا النّوع، ولكنّهم نجحوا وارتقوا بالدّراما المحلّية معتمدين على إبداعهم الفردي، وعلى ثقافتهم الّتي اكتسبوها بجهود كبيرة وهائلة، وليس بناءً على وصفات جاهزة، أو نشاطات بلا معنى كأن يجلس عشرة أو عشرون شخصا ليقوموا “بعصف ذهني” وغيره من المفردات الغريبة لهذه المصلحة الّتي صارت مليئة بالدّخلاء.
قال الفيلسوف جون ديوي: “التّجريب سمة أساسيّة للفنّان، ومن غير التّجريب يُصبح أي فنّان مجرّد أكاديمي” هذا القول يفصل بين الإبداع وبين الحالة الأكاديميّة، ديوي يُضيف شارحاً: “إن ضرورة أن يكون الفنّان مجرّباً تنبع من ضرورة تعبيره عن خبرة ذات طابع فردي خاص”.
هذا القول يضيء لنا واحدة من معضلات أزمة الدّراما المحلية، وسبباً وجيهاً لتدهورها، وهو تطفّل الذهنيّة الأكاديميّة عليها، والّتي أدّت إلى نفي وعرقلة التّجريب الّذي كان سائداً من قبل، أيّام كانت طازجة وغضّة، تنبع مباشرةً من الواقع المحلّي، وذلك دون أن تتكلّس في المناهج، ومن غير أن تخضع لوصفات و”راشيتات” جاهزة.
لقد عرف الإنسان القديم الفنّ بشكل عفوي منذ رسوم جدار الكهف، وأجاد الغناء، والرّقص، والنحت، وغيرها من الفنون، قبل وجود أكاديميّات الفنون بآلاف السّنين، وربّما يكون وجودها هو بداية انحطاط للفنّ، فإذا كان الواقع نفسه لا يعترف بأي قانون، أو قواعد، أو وصفة، فكيف يمكن أن نقبل باستعمال “ماكينزمات” و”أقفال” للإبداع؟
تفشّي الحالة الأكاديميّة في الدّراما، والّتي في أحيان نادرة، وشبه معدومة، قد يكون لها بعض المنافع، ولكنّ ضررها أكبر من نفعها، مما يدفعنا للتّسليم بأنّ هذا التفشّي واحد من أسباب ضعف الدراما المحليّة، وذلك بآثار ملموسة وواضحة، لن يكون آخرها “بدعة” ورشات السّيناريو، والّتي تمثّل محاكاة لمحاضرات السّيناريو، وكأنّ الفنّ والإبداع يُمكن أن يُعطى بمحاضرات، في إغفال تامّ لمبدأ الموهبة؛ والآن فلننعم بنتائج تفشّي الحالة الأكاديميّة، ولنشاهد مسلسل شبابيك.
تمّام علي بركات