التشابكات مستمرة..!
يمكن أن نستنتج بسهولة أن لا أحدَ يريد حل مشكلة التشابكات المالية بين جهات القطاع العام، لا وزارة المالية ولا القيادات الإدارية في الجهات الرسمية والحكومية، لأسباب متعددة؛ لعل أبرزها أنها بحر لا ينضب للفساد ونهب المال العام..!
مدير عام سابق لإحدى المؤسسات الحكومية الكبيرة أخبرني مرة أنه اكتشف بالمصادفة أن التحويل المالي إلى جهة عامة دائنة لم يصل..!
احتمالات عدم وصول المبلغ المحول من جهة عامة مدينة إلى جهة عامة دائنة متشابكة.. فإما أن المسؤول عن التحويل وثّق في البريد الصادر أنه أرسل التحويل.. لكنه فعلياً لم يرسله، وبالتالي لا أحد يعرف من استفاد من قيمته..!
ـ أو أن التحويل وصل إلى الجهة المُرسل إليها، لكن المسؤول عن استلامه لم يسجله في البريد الوارد، وبالتالي لا أحد يعرف أيضاً من استفاد منه..!
ـ وقد يكون التحويل لم يُسجل أصلاً.. لا في البريد الوارد ولا الصادر..!
المسألة هنا لا تتعلق بتحويل واحد، وإنما بآلاف التحويلات المتشابكة التي لا يستطيع أحد أن يرصد تحركاتها الشكلية في السجلات الورقية..!
لقد توهمنا أن التشابكات المالية ستنتهي وتختفي بعد صدور قانون حل التشابكات المالية رقم/9/ لعام 2017.. ولكننا فوجئنا أننا أمام مشكلة مستعصية لن تحل أبداً..!
هذا ما استنتجناه من تصريح مسؤول في وزارة المالية الشهر الماضي..
قالها بثقة: مشكلة التشابكات المالية بين الجهات العامة ستبقى..!!
أما الأسباب التي ساقها المسؤول فغير مقنعة أبداً..
إذا كان سبب المشكلة هو الفرق ما بين المبيع والتكلفة في بعض الجهات العامة.. فإن الحل يكون بزيادة اعتمادات الوزارة المشرفة على المؤسسات التي تبيع السلع والخدمات المدعومة بأقل من التكلفة لسد عجوزاتها مباشرة بدلاً من تحويلها إلى تشابكات مالية..!
وبمعنى آخر فإن الدعم اليومي الذي تقدمه الحكومة والذي يصل إلى أربعة مليارات ليرة بحسب تصريح وزارة المالية.. لماذا لا يحول مباشرة إلى الجهات المكلفة بتقديمه مسبقاً لاحقاً..!!
التفسير الاقتصادي الآخر للتشابكات المالية وفق اجتهاد وزارة المالية يتخذ شكل ديون مالية مستحقة لجهة ما على جهة أخرى نتيجة تداخل العمل بينهما، وبالتالي تراكم الديون وعدم قدرة الجهة المدينة على تسديد ما عليها من استحقاقات للجهة الدائنة نتيجة العجز المادي الذي وقعت فيه.. إلخ.
حسناً.. وزارة المالية التي بشرتنا أن التشابكات المالية ستستمر تعرف مسبقاً أن بعض الجهات العامة ستقع في عجز مالي ولن تتمكن من تسديد ديونها، وهذا يعني أن المسؤولية تقع على الوزارة لأنها لم ترصد مسبقاً الاعتمادات الكافية التي تحول دون عجز هذه الجهات عن التسديد الفوري..!
ونستنتج هنا أن وزارة المالية تستمتع بدور الوصي على المؤسسات العامة وتتعامل معها كأنها أطفال قصّر يحتاجون إلى وصاية دائمة، ولن يصلوا إلى مرحلة البلوغ أبداً..!
ولهذا السبب لا تقوم وزارة المالية برصد المبالغ الكافية للمؤسسات التي تبيع خدماتها بأقل من الكلفة، ولهذا السبب أيضاً ستبقى التشابكات المالية مشرعة وبحراً لا ينضب للفساد والإثراء غير المشروع..!!
ترى لو أن المؤسسات الحكومية تتمتع بالاستقلال المالي والإداري من جهة، وتتلقى المبالغ التي تغطي الفرق ما بين تكلفة السلع المدعومة وبيعها.. هل ستبقى مشكلة التشابكات المالية إلى الأبد..؟
بالمختصر المفيد: لا نرى حلاً لمشكلة التشابكات المالية إلا بتحرير القطاع العام من وصاية وزارة المالية التي تعد حالياً وصية على جميع الوزارات، والاقتناع أن كل وزارة بالغة وناضجة وقادرة على إدارة مؤسساتها مالياً وفق الاعتمادات المرصودة لها في الموازنة العامة للدولة..!
علي عبود