الصحافة الحزبية..تحديات تواجه نسختها الورقية
عمر المقداد
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، دعا مصطفى مراد زعيم حزب الأحرار المصري أحزاب المعارضة كي تتشارك بشراء مطبعة، وتأسيس شركة توزيع مستقلة، بهدف طباعة الصحف الحزبية وتوزيعها، والتخلص من القيود والشروط التي تفرضها مطابع الصحف القومية “الرسمية” وشركة التوزيع، وكمشروع يدعم عمل الأحزاب، وتستفيد من عوائده المالية.
وكما كان متوقعاً، لم تستجب الأحزاب للدعوة، ومرت أكثر من ثلاثين سنة، عانت فيها الصحف الحزبية المصرية من صعوبات متزايدة، إلى أن توقف بعضها عن إصدار نسخته الورقية، ودخل بعضها الآخر في أزمات مالية، ووجد فريق ثالث في المواقع الالكترونية ضالته المنشودة، واستمرت حال تراجعها إلى يومنا هذا الذي تواجه فيه النسخة الورقية أزمة كبيرة، وتتعرّض الصحافة الحزبية إلى انتقادات واسعة تتضمن غيابها، وحتى غياب أحزابها عن الساحة السياسية والاجتماعية.
بدأت بهذه القصة لأقول بأن هناك توقعات بأن تكون السنوات القادمة صعبة على النسخة الورقية للصحافة بشكل عام، والصحافة الحزبية بشكل خاص، وفي غالبية دول العالم، وأضيف بأنه إذا كان الجانب المالي، المتمثّل بارتفاع تكلفة النسخة الورقية، وصعوبة توزيعها، وانخفاض عائد مبيعاتها، هو أهم الأسباب التي أدت إلى تراجع الصحافة الحزبية، فإنه توجد أسباب أخرى تتعلق بعزوف القارئ عن متابعة النسخة الورقية، وتفضيله النسخة الالكترونية ذات المزايا التفاعلية، وانتقاله لمتابعة الأخبار على الأنترنت والهاتف الجوال، إضافة لأسباب تتعلق برؤية القيادات الحزبية لدور الصحافة الحزبية، وأسباب على علاقة بنمط تغطية الصحيفة لأداء قياداتها الحزبية، والأداء الحزبي بشكل عام، ودور إدارات التحرير والمحررين، وتداخل الخط التحريري للصحافة الحزبية مع الصحف الرسمية والخاصة، وأسباب تتعلق بزمن النشر ومضمونه السردي التقليدي، وأخرى تتعلق بحجم الإعلانات فيها، ما يجعل الصحيفة الحزبية تميل إلى الحزبية المفرطة في العرض والسرد، ويهدد جماهيريتها.
إن كل هذه الأسباب أدت إلى وضع صعب للصحافة الحزبية، وصورة نمطية مقلقة عن دورها ومستقبلها، ففي مصر، توقفت العديد من الصحف الحزبية عن إصدار النسخة الورقية، وبقيت ثلاث هي: “الوفد، والأهالي، والكرامة”، وكما كان متوقعاً، فإن الأحزاب المصرية الجديدة وعددها /80/ حزباً، لم يؤسس واحد منها صحيفة حزبية، واعتمدت كلها على مواقعها الالكترونية.
وفي السودان قررت الحكومة دمج الصحف بسبب أزمة الورق، واستخدمت الحكومة “كعكة الإعلانات” وسيلة للدمج، ما أدى إلى خروج الصحف الحزبية “من المولد بلا حمص”، ولم تنج إلا صحيفة “الرائد”، لسان حال المؤتمر الوطني، و”الميدان”، لسان الحزب الشيوعي التي لم تعد تريد إعلانات، وقد علّق أحد الصحفيين على الحالة بالقول: بعد أن دمجتم الصحف، هل تدمجون الأحزاب؟.
أما في دول المغرب العربي، فتعيش الصحف الحزبية حالة صعبة، وبعضها أصبحت صحف “برستيج” حكومي، كما تواجه اختناقات شديدة في العراق بسبب تراجع الظاهرة الحزبية على حساب تقدم الظاهرة الدينية، فيما لا تتواجد الصحافة الحزبية في دول الخليج بسبب منع العمل الحزبي أساساً.
وفي الأردن، فقد كان المشهد مختلفاً بعض الشيء بسبب رغبة النظام السياسي في محاصرة الصحافة الحزبية ذات التوجهات القومية، حيث عمد النظام إلى فتح الباب واسعاً أمام الأحزاب الدينية، الأمر الذي خلق صعوبات أمام الأحزاب اليسارية والقومية ذات الإمكانيات المالية المتواضعة، والتي بالكاد تواصل صحفها إصدار نسختها الورقية بشكل أسبوعي وشهري، على الرغم من أنها الصحافة الأقدم في تجربة الإعلام الحزبي الأردني، ومثال ذلك “صحيفة “الجماهير” لسان حال الحزب الشيوعي، وصحيفة “نداء الوطن” الناطقة باسم حزب الوحدة الشعبية، وصحيفة “الأهالي” التابعة لحزب الشعب الديمقراطي، وصحيفة “البديل” الناطقة باسم الحركة القومية للديمقراطية المباشرة، إضافة إلى عدد من الصحف الحزبية التي تصدر ورقياً بشكل شهري.
وبالمقابل، فقد أدت الإمكانات المالية الكبيرة للأحزاب الدينية الأردنية إلى الانتقال من نمط الصحافة الورقية إلى نمط الإعلام المرئي والمسموع والالكتروني، وصفحات التواصل الاجتماعي، وبعضها افتتح قنوات فضائية، مثل قناة “اليرموك” التي تعود ملكيتها إلى أحد الأحزاب الدينية، ما يعني أن زمن النسخة الورقية للصحافة الحزبية قد انتهى بالنسبة إليها.
وقد ترافق هذا التفاهم غير المعلن بين النظام الأردني والأحزاب الدينية بتداعيات غريبة على نمط الصحافة الحزبية، وبعد أن كان الهدف هو محاصرة الأحزاب القومية، فقد استطال إلى محاصرة الكتاب الحزبيين اليساريين والقوميين، وقد وجد العديد منهم نفسه بلا عمل، ولذلك لم يكن غريباً أن يلجأ بعض الكتاب الحزبيين اليساريين بعد أن توقفت صحفهم عن الصدور إلى الكتابة في صحف حزبية تابعة لأحزاب دينية.
وفي دول العالم، يتباين حال الصحافة الحزبية، من الصين التي يدعم الحزب الشيوعي الصيني صحيفته “الشعب” بالتمويل الكامل، إلى تركيا التي تستفيد صحافتها الحزبية المعارضة من كشف أخطاء النظام كوسيلة للمبيعات والتمويل، وبات عدد كبير من محرريها في السجون، إلى فرنسا التي لاتزال الصحافة الحزبية مؤثرة فيها، وتساهم مبيعاتها وارتفاع مستوى الدخل في تمويلها واستمرارها، ومنها “لومانتييه” لسان حال الحزب الشيوعي التي تتحدث عن هموم كل الفرنسيين، لدرجة أن أي قارئ لا يميز أنها صحيفة شيوعية أساساً.
وبالمجمل، تعاني الصحافة الحزبية من أوضاع صعبة، خاصة أن العديد منها يقوم على العمل التطوعي، ما أدى إلى فقر الجانب المهني للصحافة الحزبية، وتوقف بعضها، وانتقل بعضها من الصدور اليومي إلى الأسبوعي أو الشهري، كما عمدت بعض الأحزاب إلى إعادة هيكلة إدارية وفنية وتحريرية لطاقم العمل، وقرر بعضها إغلاق الباب نهائياً بوجه النسخة الورقية، والتحول نحو الإعلام الالكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي.
كما اتجهت بعض الأحزاب، بهدف الوصول إلى جماهيرها، إلى نشر أخبارها ونشاطاتها وبرامجها في وسائل الإعلام الخاصة، كبديل عن وسائل الإعلام التي يملكها الحزب، ومع ذلك، اتضح أن وسائل الإعلام الخاصة لا تسمح لأعضاء الأحزاب بالتعبير عن مواقف أحزابهم.
كما برزت ظاهرة غريبة أخرى، وهي أن بعض الأحزاب التي توقفت صحافتها لجأت إلى كتاب غير حزبيين من المؤثرين بالرأي العام من أجل الترويج لها.
أخيراً، إن استمرارية الصحف الحزبية مرهونة بتوفر الإمكانات المالية للصحف وأحزابها، ومن المهم أن يبادر النظام السياسي العربي إلى دعم الصحافة والإعلام الحزبي في إطار دعمه للأحزاب ودورها في الحياة السياسية، ومن المهم أيضاً أن ينتبه الجميع إلى أن الرأي القائل بأن وسائل الإعلام الحزبية لم تنجح في أن تشكّل البديل الكامل الذي يبحث عنه المتلقي بين ثنائية “الإعلام الرسمي والخاص”، إنما هو رأي بحاجة إلى إعادة قراءة الأسباب التي أدت إلى عدم تمكن الصحافة الحزبية والإعلام الحزبي من أن تلعب دور البديل، لكن هذا لا يلغي أن الإعلام الحزبي والصحافة الحزبية نمط ثالث من الإعلام الذي يتبنى وجهات النظر الجماهيرية تجاه أية قضية كانت، سواء تقاطعت مع آراء الأحزاب أم تعارضت معها.