أخبارصحيفة البعث

ألمانيا وحساباتها الخاطئة

 

د. مازن المغربي

اعتبر بعض المحلّلين أن عزوف برلين عن المشاركة في العدوان الهمجي ضد سورية دليل على تمسّك المستشارة الألمانية بنهج سياسي مستقل عن إملاءات واشنطن، لكن عندما يقوم المرء باستعراض السياسة الخارجية لألمانيا منذ تأسيس الدولة الألمانية الحديثة عام 1867 تحت قيادة بيسمارك  يجد أن هناك سمات شبه ثابتة في توجهات سياسة برلين الطامحة إلى حجز مقعد بين الكبار بهدف ضمان حصة الشركات الألمانية في عملية نهب موارد العالم.

تمّ تأسيس الكيان الألماني بالاعتماد على قوة الجيش الحديث الذي خاض حروباً ضد كل من فرنسا والنمسا والدانمارك،  وقد حدث هذا في وقت متأخر نسبياً مقارنة مع الوضع الذي كان قائماً في كل من فرنسا وبريطانيا اللتين كانتا سباقتين في بناء دولة- أمة وأقامتا إمبراطوريتين شاسعتين. وقد كان من الصعب على ألمانيا التوسّع في أوروبا التي حكمت على أساس ميزان قوى قائم على تحالفات متعددة. وكان بيسمارك بارعاً في اتباع سياسة خارجية متعدّدة المسارات فتجنّب الاحتكاك ببريطانيا، وسعى إلى عزل فرنسا وأراد أن تتحوّل برلين إلى عاصمة القرار الأوروبي، ففي تلك الفترة كانت الولايات المتحدة الصاعدة بسرعة منكفئة على ذاتها، وكانت أوروبا هي التي تحتل موقع الصدارة على مسرح السياسة الدولية. لقد قامت السياسة الألمانية على قواعد واضحة تمثلت بتعزيز الاقتصاد، وتطوير الجيش ومحاولة نسج تحالفات واتباع سياسة خارجية تسمح لها بتأجيل المجابهة من القوى المنافسة إلى حين تحقيق التفوق على الخصم المفترض، وهذا ما يفسّر اهتمام ألمانيا بتعزيز علاقاتها مع الدولة العثمانية المتداعية.

كان لدى القيادة الألمانية الكثير من المبررات التي ولّدت لديها وهم امتلاك القدرة على تحقيق نصر سريع في الحرب عام 1914. فقد كان عدد سكان ألمانيا خمسة وستين مليوناً مقابل أقل من أربعين مليون فرنسي، وستة وأربعين مليون بريطاني، كما كان لدى ألمانيا القدرة على حشد جيش ضخم تجاوز عديده ثمانية ملايين ونصف المليون جندي، في حين لم يتجاوز عدد الجيش الفرنسي ثلاثة ملايين ونصف المليون جندي. صحيح أن الأسطول البحري البريطاني كان متفوقاً على الأسطول الألماني، لكن العقيدة العسكرية الألمانية كانت قائمة على أساس حسم الصراع في الميدان البري، وكانت ألمانيا تولي الكثير من الاهتمام بمشاريع شق الطرق ومدّ السكك الحديدية، حيث بلغ طول سكك الحديد الألمانية قرابة أربعين ألف كيلومتر، الأمر الذي وفر إمكانية نقل الجنود والعتاد إلى مختلف الجبهات في وقت قليل نسبياً. كان الصراع في أوروبا استمراراً لما سُمّي باللعبة الكبرى أي الصراع المفتوح بين روسيا القيصرية والإمبراطورية البريطانية، لكن صعود ألمانيا وهزيمة روسيا المذلة أمام اليابان عام 1905 غيّر الصورة وتحولت أوروبا إلى ساحة تنافس بين القوة الألمانية الصاعدة وبين الأسد البريطاني الذي ظنّ الجميع أن صار عجوزاً.

كانت عقلية كبار الساسة في لندن محكومة بقيود الماضي، الأمر الذي أقام بيئة حاضنة لفكرة قدرة بريطانيا على حسم الحرب في بضعة أشهر، ومن أبرز المؤشرات على هذا عدم تسمية بديل للمارشال هوراتيو هربرت كتشنر في منصب حاكم مصر بعد توليه منصب وزير الدفاع انطلاقاً من الظن بأن الحرب ستنتهي بسرعة، وأن الرجل سيعود إلى منصبه في القاهرة، لأن وجود ذلك القائد العسكري صاحب الشعبية الكبيرة في لندن ولّد مخاوف لدى بعض رجال السياسة الذين لم يرغبوا برؤية عسكري في منصب حكومي. لكن كتشنر كان أبعد نظراً من سياسيي لندن وأخبر زملاءه في الحكومة بأن الحرب ستدوم أكثر من ثلاث سنوات وسيتمّ حسمها في الميدان الأوروبي، وطلب رفع عدد الجيش البريطاني إلى مليون جندي وتمكّن فعلاً من بناء جيش هائل من المتطوعين.

اندلعت الحرب وتحوّلت إلى مجزرة بشعة استهلكت موارد القوى المتصارعة وشخصت أعين قادة أوروبا إلى الولايات المتحدة التي كانت تحت قيادة الرئيس ويلسون الذي أراد النأي ببلاده عن الحرب الأوروبية وهو موقف لاقى دعماً شعبياً كبيراً، لكن مراكز القرار المرتبطة بالمجمع الصناعي العسكري كان لها رأي آخر، حيث تمكّنت من تغيير المزاج الشعبي وكانت النتيجة دخول الولايات المتحدة الحرب في شهر نيسان 1917 واختلال ميزان القوى لصالح بريطانيا وحلفائها، الأمر الذي قاد إلى هزيمة ألمانيا واستسلامها المذل وفق نصوص معاهدة فرساي. كما شهدت نهاية الحرب اندلاع ثورة أطاحت بالقيصر الألماني وأقامت نظاماً برلمانياً ديمقراطياً استمر من عام 1918 حتى عام 1933 وعرف بجمهورية فايمار نسبة إلى المدينة الألمانية التي كانت مقراً للجمعية التأسيسية. وفي عام 1932 أجريت انتخابات عامة في ألمانيا في جو من الركود الاقتصادي الشديد الذي جعل كثير من الألمان يعيشون حالات الفقر والجوع.

كانت هناك عدة قوى متصارعة تسعى لنيل أصوات الناخبين، كان في عدادها قوى لها وجود تقليدي عميق الجذور في المجتمع الألماني مثل الاشتراكيين والشيوعيين، إلى جانب قوى جديدة صاعدة من أبرز ممثليها  الحزب الاشتراكي الوطني “النازي” الذي تبنّى مع بروز نجم هتلر خطاباً شعبوياً ذرائعياً ركز في حملته الانتخابية على معاناة الشعب الألماني، ورفع شعارات عنصرية تمجّد العنصر الآري وتحمّل اليهود مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية ومسؤولية هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى.

قدّم الحزب النازي وعوداً براقة لقيت صدى لدى الفئات الألمانية التي عانت الكثير من وطأة تدهور الوضع الاقتصادي، وطرح نفسه كبديل قادر على انتشال ألمانيا من وضعها المزري. وأسفرت الانتخابات عن انتصار كبير لحزب هتلر الذي حصد قرابة ثلث أصوات الناخبين، لكنه لم ينجح في تهميش قوى اليسار الألماني حيث نال الحزب الاشتراكي 20% من الأصوات، في حين صوت 17% من الناخبين لصالح الحزب الشيوعي. تلا ذلك مرحلة فراغ سياسي نتيجة رفض هتلر تشكيل حكومة ائتلافية مع الشيوعيين وتمكن في النهاية من الفوز بمنصب مستشار ألمانيا.

وسرعان ما بادر هتلر إلى التخلّص من منافسيه السياسيين، وحوّل ألمانيا إلى ورشة عمل ضخمة، وتمكّن من الالتفاف على العقوبات التي فرضها الحلفاء على بلاده ونجح في التغلب على مشكلة البطالة. واعتمد هتلر خطاباً تحريضاً عنصرياً، وركز اهتمامه على بناء قوة عسكرية مميزة بهدف تخليص ألمانيا مما اعتبره عقاباً ظالماً طال الشعب الألماني. وسرعان ما بدأ الاستعداد للحرب وتتالت المحطات التي قادت إلى المواجهة المحتومة، حيث قامت برلين بالإفصاح عن رغبتها في إعادة رسم خارطة أوروبا بشكل يمنح ألمانيا مجالاً حيوياً على حساب بلدان شرق أوروبا. وكان موقف الخصم البريطاني ملتبساً حيث سعى رئيس وزراء بريطانيا إلى تجنّب الصدام من خلال تقديم تنازلات لألمانيا، الأمر الذي قاد إلى عقد مؤتمر ميونيخ في سبتمبر 1938 الذي  أعاد لألمانيا منطقة السوديت التي  سلخت عنها إثر الحرب العالمية الأولى، لكن هذا لم يرض هتلر فبادر إلى ضم تشيكوسلوفاكيا إلى الرايخ الألماني. وفي شهر آب 1939 عقدت ألمانيا  معاهدة عدم اعتداء مع الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي سمح لها بتركيز قوتها على الجبهة الغربية. وتمكن  هتلر من بناء آلة عسكرية ضخمة على الرغم من واقع تفوق خصومه الأوروبيين المتمثلين بفرنسا وبريطانيا وبولندا على مستوى الموارد الاقتصادية. قامت حسابات القيادة الألمانية على أساس فكرة الحرب الخاطفة التي تعتمد على تشكيلات كبرى من المدرعات تنفذ عمليات خرق والتفاف مدعومة من سلاح جوي حديث ومتفوق بالاعتماد إلى تطوير عمليات تصنيع الطائرات الذي ارتفع إلى مستوى غير مسبوق، وتمكنت ألمانيا في عام 1939 من إنتاج 4733 طائرة مقاتلة وأكثر من ثلاثة آلاف طائرة نقل.

حقّقت ألمانيا انتصارات عسكرية سريعة، حيث اجتاحت فرنسا بسرعة  واحتلت الدانمرك. بعد ذلك بدأت القيادة الألمانية تنفيذ عملية بارباروسا بهدف اجتياح الاتحاد السوفيتي والاستيلاء على موارده الضخمة، وقامت بحشد أكثر من أربعة ملايين جندي بادروا إلى الهجوم في الثاني والعشرين من حزيران 1941. حقّق الجيش الألماني انتصارات متتالية ولدت لدى القيادة الألمانية وهم السيطرة على أوروبا، لكن بدا لاحقاً أن القيادة الألمانية لم تحسب حساباً لمقاومة الجيش والشعب السوفيتي كما أنها أغفلت عاملاً حاسماً يتعلق بموقف واشنطن التي دخلت الحرب ضد اليابان في نهاية عام 1941. وبعد ذلك نفذت عملية إنزال في المغرب عام 1942 وبدأت الاستعداد للمجابهة النهائية التي توجت بعملية الإنزال في النورماندي.

انتهت الحرب بهزيمة ألمانيا وتدمير مدنها وخضوعها لاحتلال انتهى بتقسيمها إلى دولتين. كانت نتيجة الحربين كارثية بالنسبة للشعب الألماني، الأمر الذي أوجد أرضية مناسبة لنزعة سلمية ترجمت بسياسة خارجية وسطية كانت واضحة من خلال التعامل مع جمهورية ألمانيا الديمقراطية وما عُرف بسياسة الانفتاح شرقاً التي مارستها برلين.

وعلى مدى عقود من الزمن حاولت برلين اتباع سياسة خارجية مستقلة تجلّت بشكل واضح في موقفها المعارض لاجتياح العراق، الأمر الذي كلف المستشار شرويدر خسارة الانتخابات أمام أنجيلا ميركل وثيقة الصلة بالمنتديات السياسية غير المنتخبة التي تضمّ نخباً منتقاة من سياسيي العالم. كما تعزّز ميل  ألمانيا لفرض زعامتها على أوروبا إثر قرار بريطانيا الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وبالاعتماد على تجربة ألمانيا التاريخية في الحربين العالميتين، وواقع أن تدخل واشنطن في الحرب الأوروبية أدى في كلتا الحالتين إلى هزيمة ألمانيا اتسم تعامل برلين مع مبادرات واشنطن بشيء من الحذر. لكن صار من الواضح أن هناك ميلاً متصاعداً في برلين لعسكرة السياسة الخارجية من خلال بناء قوة عسكرية ضخمة حديثة قادرة على التدخل في أي مكان من العالم، بل إن الحكومة الألمانية طرحت مشروع بناء قوات أوروبية تحت قيادتها، وهي تعمل على دفع بلدان الاتحاد الأوروبي إلى تخصيص المزيد من الأموال للتسلح ولفرض الرقابة على حدود الاتحاد الأوروبي، حيث أعدّت ألمانيا مشروعاً سيطرح على الاجتماع القادم لقادة الاتحاد الأوروبي بهدف تبني استراتيجيات تسعى إلى  رفع نسبة الأموال  المخصّصة للجيش لتصل إلى 2% من الناتج الوطني تلبية لرغبات واشنطن التي لم تعد تقبل أن تتحمّل وحدها الأعباء المالية لحماية حلفائها في أوروبا. وضمن هذا السياق طرح ممثل ألمانيا مشروع ميزانية الاتحاد الأوروبي للفترة الممتدة ما بين 2021-2027 وتضمن رفع النسبة المخصّصة للإنفاق العسكري إلى 1.1 من مجمل الناتج العام لدول الاتحاد أي ما يعادل ألف ومئة وخمسة وثلاثين مليار يورو!!.

صدرت بعض التحفظات من بعض دول الاتحاد الأوروبي، أما فيما يخصّ ألمانيا فيبدو أن خيار تصعيد سباق التسلح محسوم، حيث أعلن وزير المالية أولاف شولتز، وهو من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، عن خطته لزيادة الإنفاق العسكري خلال الدورة التشريعية القادمة بما لا يقلّ عن 5.5 مليارات يورو، الأمر الذي يعكس توافق الائتلاف الحكومي الواسع على رفع مستوى الإنفاق العسكري ليصل إلى نسبة 2% من الناتج القومي مع حلول عام 2024 وهذا مؤشر على رضوخ برلين لضغوطات واشنطن.

وبالعودة إلى مؤتمر ميونخ للأمن الذي عقد عام 2014 نجد إعلاناً رسمياً عن عودة النزعة العسكرية الألمانية. وتلا ذلك في عام 2016 إصدار الكتاب الأبيض حول جيش ألمانيا الاتحادية، ومؤخراً أشارت  صحيفة الجيش الألماني إلى أن المفهوم الجديد لدور الجيش الألماني سيتمّ نشره في عدد الجريدة الذي سيصدر في شهر حزيران القادم، ويتضمن شرحاً لدور الجيش الألماني في إطار حلف الناتو، كما يتضمن تصوراً لاحتمال المواجهة مع روسيا الاتحادية.

لكن من جديد يبدو أن السياسات الألمانية قائمة على حسابات قاصرة، حيث إنه من المرجح أن تنحصر أي مواجهة بين روسيا والولايات المتحدة في مناطق محدّدة، لأن موسكو والمراكز الحيوية في روسيا محمية بنظام صاروخي متطور كما هي حال واشنطن والمراكز الحيوية في الولايات المتحدة، في حين لا يوجد نظام صاروخي قادر على حماية الأهداف الإستراتيجية في ألمانيا نظراً للمسافة المحدودة التي تفصلها عن منصات الصواريخ الروسية. كما أن هناك عاملاً مهماً يتعلق بالكثافة السكانية وهي نسبة مجموع السكان إلى مساحة البلاد، فقد بلغت كثافة السكان في روسيا 8.4 فرد لكل كيلومتر مربع، في حين بلغت كثافة السكان في الولايات المتحدة 31 فرداً لكل كيلومتر مربع، وبالمقابل تبلغ الكثافة السكانية في جمهورية ألمانيا الاتحادية 232 فرداً لكل كيلو متر مربع، وبالتالي ستتعرض ألمانيا لخسائر مرعبة في الأرواح عند اندلاع المواجهة نظراً لتكدس السكان في مناطق حضرية مزدحمة. ومما يثير الاستغراب واقع أن الكثير من الساسة الألمان يعتبرون وجود السلاح النووي التابع للولايات المتحدة ضماناً لأمن ألمانيا، وهذا يعطي مؤشراً إضافياً على نجاح عملية تطويع الرأي العام في ألمانيا مقارنة مع الوضع الذي كان قائماً قبل ثلاثين عاماً عندما انطلقت في عام 1989 مظاهرات ضمّت الملايين احتجاجاً على نشر صواريخ “بيرشنغ” على الأرض الألمانية، ورفع المتظاهرون وقتها شعار “أن نصبح حمراً أفضل من أن نموت”، في حين نجد أن الشارع الألماني هادئ اليوم كما لو أنه لا يشعر بالأخطار المحدقة به. كما نلاحظ أن وسائل الإعلام الكبرى تتبنى وجهة نظر واشنطن دون تمحيص أو تدقيق. ويصدف أحياناً أن تحاول حكومة برلين تبني خطاً مختلفاً بعض الشيء عن توجهات واشنطن، كما هي الحال الآن مع موضوع انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق مع إيران، لكن لا يعدو أن يكون هذا وهماً، كما نتبيّن من التصريح المشترك الذي صدر عن حكومات كلّ من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا في العاشر من شهر أيار الجاري، وبالتالي يمكن أن نستشف أن هناك محاولة لتقاسم الأدوار، فقد أعلنت الحكومات الثلاث تمسكها بالاتفاق النووي مع إيران لكن مع ضرورة تعديله وهذا يعني فرض شروط جديدة على طهران، حيث طالب الإعلان المشترك إيران بضبط برنامجها الصاروخي والحدّ من تدخلاتها الإقليمية.

ومن الواضح أن الموقف الأوروبي مبنيّ على حسابات اقتصادية لأن تجديد العقوبات الاقتصادية يعني خسارة عقود بمليارات الدولار كما هي الحال بالنسبة لشركة “إيربص” التي وقعت مع طهران عقداً بقيمة 16 مليار يورو وهي خسارة مؤكدة بعد أن سحبت واشنطن موافقتها على تصدير مكونات طائرة الإيربص المصنّعة في الولايات المتحدة، الأمر الذي يعني ضياع الصفقة التي وقعتها الشركة مع شركة الخطوط الجوية الإيرانية في شهر كانون الأول من عام 2016. لكن يصعب على برلين الوقوف في وجه واشنطن التي هدّدتها برفع الرسوم المفروضة على الحديد وعلى الألمنيوم  كما أن برلين تعاني من نتائج العقوبات المفروضة على روسيا .

في واقع الأمر ترى برلين أن وزنها الاقتصادي يمنحها الحق في لعب دور أكثر فعالية على المسرح السياسي، كما ترغب في التعامل مع واشنطن بوصفها شريكاً، لكن هذا غير وارد بالنسبة للرئيس دونالد ترامب المصرّ على انفراد واشنطن بتوجيه أمور العالم. وضمن هذا السياق باشر سفير الولايات المتحدة الجديد في برلين، ريتشارد غرونيل، عمله بتوجيه تغريدة على تويتر موجهة إلى رجال الأعمال الألمان تضمّنت إنذاراً بضرورة  إيقاف كل نشاطاتهم مع إيران، وبالنهاية يتولد لدى المرء انطباع بأن كل سياسات ألمانيا مبنية على حسابات قاصرة. فمن وجهة نظر واشنطن فإن لألمانيا دوراً مرسوماً ومحدّداً في قيادة دول الاتحاد الأوروبي وفق المسار الذي حدّدته مراكز القرار المرتبطة بالمجمع الصناعي العسكري الممسك بكل مفاصل مجتمع الولايات المتحدة. وفي التحليل النهائي لا يمكن أن يتوقع المرء قبول واشنطن بتحوّل الاتحاد الأوروبي إلى شريك حقيقي، بل إن الكثير من المؤشرات تدلّ على أن الاتحاد الأوروبي هو حليف آنيّ تنظر إليه واشنطن بعين الريبة، حيث  تصل مساحة بلدان الاتحاد الأوروبي إلى أربعة ملايين كيلومتر مربع ويبلغ عدد سكانه 508 ملايين نسمة ويمتلك قدرات تقنية ومالية ضخمة، إذ بلغ مجمل إنتاجه الوطني عام 2016 مبلغ 16.394.72 مليار دولار مقابل 1248.55 مليون دولار في روسيا و11.158.94 في الصين، وبما أن الاقتصاد هو المحرك الرئيسي للسياسة فمن المرجح أن تتحول أوروبا إلى العدو القادم في عقل صنّاع السياسات في إمبراطورية الولايات المتحدة الذين يجرون العالم إلى مواجهة مدمّرة يتوهمون أنها ستسمح لهم بتدمير كل من الصين وروسيا والاستيلاء على مواردهما الطبيعية والبشرية.

إن الجنوح إلى الحرب صار سمة ثابتة في سياسة واشنطن، كما نلاحظ من سياسة التصعيد والشحن ضد روسيا التي لا تشكّل فعلياً منافساً اقتصادياً حقيقياً، لكنها تمارس سياسة الدفاع عن مصالحها ولن يكون وضع ألمانيا أفضل في حال قيامها بممارسة سياسة خارجية مستقلة عن إملاءات واشنطن.