ثقافةصحيفة البعث

طاغور منارةُ للإنسانية ونهر خالد للسلام

 

مفكرٌ وإنسان بامتياز، شاعر كان يغني بموسيقى وإيقاع رقصة سرية تعزف على وتر الإنسانية، هو ذاك الرسول الذي بث في نفوس دعاته عشق الحياة وألقها، تواقا إلى رسم الأحاسيس الرائعة الهادفة إلى المحبة والحق والجمال الأبدي. هو نفسه الذي استحق ما لقبه به غاندي قائلا أنه “منارة الهند”، المنارة التي وجهت كل المحيطات والمبحرين فيها للوصول إلى مرافئ السلام والسكينة بوصف المبحر هو الإنسان ذاته، الإنسان الذي استحق القيمة السامية العليا في هذا الكون.

يقول طاغور في وصيته (أمامك أيها البحار، أمامك محيط السلام، ادخل بقاربك  وارفع شعار الذهاب نحو السلام).

ولد طاغور الرسول في مدينة (كلكتا) في 7 أيار عام 1861 م، في عائلة تنتمي إلى الديانة البراهمنية والمنغمسة في الروحانية، اخذ علومه من والده وأشقائه، درس لغتهم السنسكريتية وآدابها, أرسله أبوه إلى لندن وعمره لا يزيد عن 16 سنة ليدرس مادة القانون، لكنه توجه في اهتماماته إلى الأدب ودراسة الشعر، فنهل من الثقافة الغربية وبخاصة شعر شكسبير، وملتون وشيلي وغيرهم، فعاد إلى بلاده الهند محملا بثروة أدبية وشعرية استطاع أن يستثمرها في أدبه وشعره بأبهى الصور والأوصاف والمعاني، حيث استحق جائزة نوبل للآداب عام 1913 عن ديوانه (قربان الأغاني) والذي تبرع بقيمتها إلى المدرسة التي أنشأها والتي سميت (مرفأ السلام).

توحد مع الطبيعة

لعل التعبير عن الذات الإنسانية الخالصة النقاء والتي تستمد جمالها وصفاءها من الأم الطبيعة للانتقال إلى حالة الارتقاء والتجلي، هي إحدى المبادئ الكبرى التي نتلمسها في شعر طاغور، حيث اعتبر أن الطبيعة هي إحدى تجليات الله، لذلك امتزج بالطبيعة وامتزجت به، كان عاشقا لها، يفيض الحب في قلبه كلما رأى زهرة أو وردة وكلما سمع وشوشة النسيم، ليترجم هذا الحب بأبهى الصور الشعرية يقول:

(أيتها الأرض العظيمة، ما أكثر ما أحسست بالرغبة للانصهار فيك) فكانت الطبيعة برأيه مصدرا للخيرات التي تقدم للإنسان وتساهم في تقدمه، لذلك احتج على زمن القسوة والحروب وعلى تعديات البشر عليها داعيا إلى الاستمتاع بجمالها:

(تعال أيها الربيع، يا عشيق الأرض المتهور، اجعل قلب الغاب يتشوق للتعبير عن نفسه، تعال مع هبات الرياح القلقة، حيث تزهر البراعم فجأة، وافتَح أوراقا جديدة وانفجر كثورة من النور عبر سهر الليل عبر ظلام البحيرة).

تأملات شعرية

شرّع طاغور أبواب محبته على العالم، والتي كانت الذات الإنسانية هي مصدر تناغم هذا الحب وانسجامه مع الذات الإلهية، لذلك سار وارشد من حوله إلى المضي في رحلة اكتشاف الذات والبحث عن النور الأزلي والشفافية المطلقة، في مسيرة صوفية للوصول إلى السماء للخلاص من قيود الزمان والمكان وتبديد الظلمات، خالقا حالة من الاستنارة عند أبناء جيله وبعده، مناديا إياهم إلى بث المعرفة والحكمة، مركزا على أهمية المحبة وأخوية الإنسان لأخيه الإنسان، وكان يؤمن بسطوع شمس الشرق وتقدمه:

(استيقظ أيها الشرق العريق، إن ليل العصور المظلم، قد دثرك بظلماته الكثيفة، وبين يقظتك ومنامك، بددك في بحر النسيان، استيقظ أيها الشرق العريق، إن أنغام الحياة المتنوعة قد خفتت فمتى يرقص في نبضك من جديد نداء النور)

عاصر طاغور الحربين العالميتين وشاهد مصير العالم وألمه، لكن ثقته بالإنسان والإنسانية ظلت كبيرة:

(مهما يكن من شيء فاني لن ارتكب الخطيئة الخطيرة: خطيئة فقدان الإيمان بالإنسان، والرضوخ للهزيمة التي حاقت بنا في الوقت الحاضر على اعتبارها نهائية وحاسمة، بل سأظل أتطلع بأمل إلى تحول في مجرى التاريخ، وبعد أن نتجنب هذه الغيمة الجاثمة وتصفو السماء ثانية وتهدأ، ربما بزغ الفجر من جديد من أفقنا هذا، أفق الشرق، حيث تشرق الشمس، وتهب روح الإنسان التي لم تهزم لتقوده من جديد إلى طريق التقدم رغم كل العوائق، ليسترد تراثه الضائع).

بستانه الحب

(للحب مقدرة على أن يستخلص المتعة والبهجة من الأخطاء ومن عدم التناسق والضجر والعجز كحب الأم عندما ينساب فياضاً كلما أخطأ طفلها الخطو…)

هو الحب بستانه ومرتعه الذي يستمده من الحب الإلهي، والذي يعتبره وسيلة للوصول إلى الكمال الجميل في الروح الإنسانية، استطاع أن يجسد الحب ويتغنى به للمرأة التي اعتبرها أساس المجتمع وانبعاثه وولادته، لذلك لا يجوز ظلمها وقهرها، فهي كالطبيعة حبها من ذات الحب، أحب طاغور زوجته وأنجب منها ثلاثة أطفال وكتب لها وتغنى بفرحتها قائلا:

“لقد هلت الفرحة من جميع أطراف الكون لتسوي جسمي، لقد قبلتها أشعة السموات، ثم قبلتها حتى استفاقت الحياة، وداعبت موسيقى الأشياء كلها أعضاءها لتمنحها أهاب الجمال”.

لم يتوقف الحب لديه عند حدود المرأة، بل جسد حبه للوطن، من خلال رسالته الوطنية التي تقوم على مساواة الإنسان بكل أطيافه مع الإنسان أينما كان، من خلال الاعتراف بحقوقه وإزالة كل أشكال الظلم والقهر والآثار النفسية التي تركتها الحروب والنظريات العنصرية، يناجي وطنه قائلا:

(إيه يا وطني اطلب إليك الخلاص من الخوف.. الخلاص من وقر العصور التي تحني رأسك).

هكذا عاش طاغور منتصرا سواء كان شاعرا أم مسرحيا أم قاصا أم مستنيرا، ليدخل تاريخ الإنسانية ويحرز الخلود فيها للأبدية، تاركا نتاجا فريدا نوعا وكما من كل إشكال الفنون والإبداع، لذا كان حصاده (11 مسرحية شعرية، 3 مسرحيات راقصة، 4 مسرحيات هجائية ساخرة، 12 رواية) وعدة مجلدات من القصص القصيرة وكتب من الأسفار والذكريات إضافة إلى تقديمه عدة معارض فنية بصفته رساما شغف بفن الرسم وجاب بلوحاته عدة بلدان يقول: (الفن يماثل الحب كونه غير قابل للتفسير).

غادر طاغور الحياة أيضا منتصرا، ففي عام 1918 ارتحل بجسده صامتا وأسدل الموت على جفنيه الستار، لكنه مات بوقار، وعاش نهرا خالدا يسقي الحياة بمنابع عطائه اللامحدود، ويبزغ في العقول فجر السمو، من خلال نتاجه المعجون بالمعاني الوجودية الممتلئة بالمثالية والروحانية.

رشا الصالح