باستثناء التهديدات والعقوبات.. لا سياسة خارجية لأمريكا!!
خلافاً لمعظم دول العالم فإن الرئيس الأمريكي ليس وحده من يدير السياسة الخارجية لأقوى دولة في العالم، فهناك عدة مراكز قوى تشارك الرئيس في صنع السياسة الخارجية، منها الكونغرس، ووزارة الخارجية، والبنتاغون، ومراكز البحوث، وأبرزها مركز شيكاغو، وأجهزة المخابرات المتعددة، وفي مقدمتها “السي أي ايه” والإعلام.. إلخ!!.
وإذا أردنا الإيجاز فإن الحكومة العميقة التي تضم كبار قادة صناع الأسلحة والمال هي من تملي قراراتها على مؤسسات الدولة من الرئيس إلى وزارة الخارجية لتنفيذها كلاً على طريقته فيما يخص سلوك أمريكا تجاه دول العالم!.
لم تكن هناك مشكلات مع الرؤساء الأمريكيين السابقين الذين كانوا يوحون للداخل والخارج، كلاً حسب قوته “وكارزميته”، أنه الأوحد في تقرير السياسة الخارجية للولايات المتحدة بمساعدة مستشاريه، وفي مقدمتهم مستشار الأمن القومي.. إلخ.
لكن الأوضاع اختلفت مع الرئيس دونالد ترامب، ودفع بالكثيرين للتساؤل: من يدير سياستنا الخارجية؟.
المشكلة مع ترامب كانت واضحة منذ البداية، فهو شخص انفعالي لدرجة العبثية، ومضلل، ويصفه المقربون منه بأنه كاذب من الطراز الأول!!.
ماذا كان يحدث في السابق؟.
كان للحكومة العميقة منظرون استراتيجيون يسوقون لسياساتها ولكيفية إدارتها للعالم، ويبدأ هؤلاء بنشر البحوث والكتب والمقالات للتسويق لمرحلة جديدة لقيادة أمريكا للعالم على الصعيدين العسكري والاقتصادي مع خطط قوية لشن الحروب ضد “الأعداء”!.
وما إن يتم تسويق العهد الاستراتيجي الجديد، حتى تأتي الحكومة العميقة برئيس أمريكي، ولا يهم هنا شخصية الرئيس، فقد تكون له جاذبية قوية وجماهيرية كالرئيس جون كنيدي، أو يكون متمكناً وقوياً كالرئيس ريتشارد نيكسون، أو ممثلاً تافهاً وفاشلاً كرونالد ريغان، أو غبياً كجورج بوش الابن الذي كان يزعم أن الله يتحدث معه، أو رئيساً عبثياً كدونالد ترامب.. إلخ!!.
ما كان يهم الحكومة العميقة أن يدير منظروها الاستراتيجيون الرئيس الأمريكي كهنري كيسنجر الذي قاد ونفذ فعلياً السياسة الخارجية لأمريكا في عهد عدد من الرؤساء، وزبينغو بريجنسكي، وكونداليزا رايس التي عملت على نشر الفوضى “الخلاقة” في عدد من دول العالم!.
في عهد ترامب لا نجد مثل هؤلاء المنظرين، ما أحدث ارتباكاً في السياسة الخارجية، وأكد الكثير من المحللين أننا أمام شخص لا نعرف شيئاً عن سياساته الخارجية: مشاكل مع الصين، وحرب كلامية مع كوريا الديمقراطية كادت أن تشعل حرباً إقليمية، ومشاكل مع أوروبا وروسيا والناتو، وانسحابه من اتفاقية المناخ، والانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران.. إلخ!.
وصدق من قال: في سياسة ترامب الخارجية الكثير من الصدام مع العالم.. بل لا يوجد فيها سوى الصدام.. فما هذه السياسة؟.
ولو لم تتدخل الحكومة العميقة لفرملة عبثية ترامب، وخاصة ما يتعلق بأزمة كوريا، لربما أعلن ترامب الحرب النووية على كوريا الديمقراطية، ولأمر أساطيله بمحاصرة إيران، أو شن حرب محدودة عليها، بل لولا الوجود العسكري في المنطقة لفعلها في سورية!.
لهذه الأسباب عندما نريد أن نتلمس السياسة الخارجية لأمريكا في عهد ترامب فعلينا أن نسأل: ماذا تريد الدولة العميقة؟ والجواب ليس غامضاً بل إن الممثلين والناطقين باسم الحكومة العميقة يجيبون بوضوح تام: نريد أمريكا أولاً، نريد استعادة القيادة لأمريكا، يجب أن تبدو أمريكا قوية.. يجب أن تُحترم أمريكا.. يجب أن تُقبل قوة أمريكا إلخ!.. وهذا ما يردده ترامب أيضاً وكأنه يسترضي الحكومة العميقة: أنا سأعيد العظمة لأمريكا!.. ولكن السؤال الأهم: كيف ستستعيد أمريكا قوتها وعظمتها وهيبتها؟.
ترى الحكومة العميقة أن وجود عدو واضح ضروري جداً لاستعادة عظمة أمريكا! وهذا العدو تحدد في الاستراتيجية الجديدة وهو: روسيا والصين وكوريا الديمقراطية وإيران، ولكن لماذا تحتاج الدولة العميقة إلى عدو واضح جداً ودائم؟.
إن هذا العدو ضروري لأنه يخلق صراعاً محتملاً، ولابأس أن يتأجج هذا الصراع إعلامياً ومن خلال مواقف نارية إلى حد الوصول به إلى حافة الهاوية لأنه سيبرر أمام الرأي العام الأمريكي أي دافعي الضرائب الحاجة للإنفاق العسكري.. أليس هذا ما حصل خلال أقل من عام على رئاسة ترامب..؟.
فالوقائع تؤكد أن هناك حجماً هائلاً من الإنفاق العسكري بعد تأجيج العداء ضد روسيا وكوريا الديمقراطية والصين!!.
وهنا تأتي لعبة العقوبات الاقتصادية كركن هام في السياسة الخارجية، بل يبدو أحياناً وكأن لا سياسة خارجية لأمريكا سوى التهديدات والعقوبات!.
وبإيجاز فإن الولايات المتحدة تواجه خصومها الأقوياء كروسيا والصين بالعقوبات أو التهديد بشن الحرب عليهم كما تفعل مع كوريا الديمقراطية وإيران، بل لا تتردد بالذهاب إلى الحرب كما فعلت في أفغانستان والعراق.. إلخ.
أما بالنسبة للحلفاء والأتباع فإنها تبتزهم: “بما أننا ندافع عنكم ونحميكم عيلكم أن تدفعوا الثمن مالياً واقتصادياً”.. أليس هذا ما حدث مع دول الأطلسي وممالك الخليج!.
هذه هي السياسة الخارجية لأمريكا، وهي كما نرى لا تشبه السياسات الخارجية لمعظم دول العالم التي تبحث عن نقاط مشتركة تحقق مصالح متبادلة للأطرف كافة، وإن كانت المصالح تميل غالباً لصالح طرف أقوى من الآخر.. أما أمريكا فهي تقرر ما تريد، وعلى الآخرين الانصياع أو التعرض للعقوبات.. والحروب!.. لنستعرض أهم الدول التي تعرضت للعقوبات الأمريكية:
– روسيا: تعد أكثر الدول التي فرضت عليها أمريكا العقوبات فقد أدرجت واشنطن أخيراً 114 وزيراً وشخصية روسية ضمن قائمة محتملة للعقوبات لم تستثن منها سوى الرئيس الروسي!.
– إيران: بدأت العقوبات ضدها في عام 1979 بعد الإطاحة بالشاه وانتصار الثورة الإسلامية، وبالرغم من الاتفاق النووي الموقع مع إيران عادت إدارة ترامب لتشديد العقوبات ضد إيران على الرغم من التزامها بالاتفاق.
– كوريا الديمقراطية: تعد الأقدم بالتعرض للعقوبات، إذ ترجع إلى بداية الحرب الكورية التي قتل فيها الجيش الأمريكي أكثر من مليون مدني!.
– الصين: بدأت واشنطن بفرض العقوبات الاقتصادية ضدها في عام 1989، وهي تهدد حالياً بإعادة التعرفة الجمركية مع الصين، ما سيعرض تجارتها لخسائر في حال لم ترد على واشنطن بالمثل!.
– كوبا: بدأت العقوبات عليها منذ عام 1962 وقد عادت إدارة ترامب لتشديد الموقف الأمريكي منها مجدداً، وذلك بعدما بدأت إدارة أوباما بتطبيع العلاقات معها ورفع العقوبات.
– سورية: تعود العقوبات الاقتصادية ضدها إلى عام 1986 عندما اتهمت واشنطن دمشق بدعم الإرهاب، وبعد عام 2011 جاءت العقوبات بحلة جديدة بذريعة انتهاكات حقوق الإنسان في سياق الحرب السورية!.
وإذا كان هذا هو حال السياسة الخارجية لأمريكا في العقود الماضية.. فهل من جديد أو تغيير فعلي في هذه السياسة خلال العقد القادم؟.
السياسة الخارجية الجديدة لأمريكا والتي ستستمر لتسع سنوات كشف عنها البنتاغون- ليس وزارة الخارجية- حين أشارت في تقريرها منتصف كانون الثاني 2018 إلى أن مصادر التهديدات الرئيسية للأمن الأمريكي هي الصين وروسيا وكوريا الديمقراطية وإيران!.
واعتبرت هذه الاستراتيجية للسياسة الخارجية الأمريكية بأن أهم تهديد لأمريكا يأتي من الأسلحة النووية الروسية، وبقيام موسكو بالاستثمار في “زعزعة استقرار الفضاء السيبراني”!!”.
في حين رأى مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية مايك بومبيو أن الصين تشكل تهديداً أكبر من روسيا على الولايات المتحدة والغرب من حيث أنشطة التجسس ضد البلدان الأخرى لخلق تأثير ضدها، وقال: “نشهد اليوم بذل الصين مساعي لتدريب جواسيس يعملون ظاهرياً لصالح المؤسسات الأمريكية لتأمين سرقة معلومات نيابة عن الحكومة الصينية”.. “هؤلاء الجواسيس يعملون في مدارسنا وداخل نظامنا الصحي والطبي وفي الشركات الأمريكية”.. “هذه الأنشطة تمتد أيضاً إلى بريطانيا والدول الأوروبية”، ماذا نستنتج من كل ذلك؟.
تسعى الولايات المتحدة الأمريكية في سياستها الخارجية إلى محاولة منع ظهور منافس عالمي آخر يكون منافساً لها، وتحاول منع العودة إلى النظام ثنائي أو متعدد القطبية، ولذلك تلجأ إلى استخدام العقوبات والقوة العسكرية لتدعيم سياستها الخارجية في العالم!.
وعندما يعلن ترامب في كلمته السنوية عن حالة البلاد أمام الكونغرس: “إننا نواجه في جميع أنحاء العالم أنظمة مارقة ومنافسين مثل الصين وروسيا اللتين تتحديان مصالحنا واقتصادنا وقيمنا”.. وهذا يعني أن لا سياسة خارجية لأمريكا سوى الحروب والتهديدات والعقوبات!!.
أخيراً نسأل: إلى متى يمكن لدول قوية عسكرياً واقتصادياً مثل روسيا والصين أن تتحمل العنجهية الأمريكية المتمثلة بالتهديدات والعقوبات؟.. الدلائل تشير حسب بعض كبار المسؤولين السابقين في مراكز صناعة القرار الأمريكي والغربي إلى أن الوقت أصبح قريباً جداً لتقول روسيا أو الصين أو الاثنتان معاً: “حسناً طفح الكيل.. اللعبة انتهت.. كفانا تهديدات وعقوبات”!!.
علي عبود