طوق الحمامة (4)
د. نضال الصالح
لم يكن عصر ذلك اليوم كما سبق مثيله من الأيام التي سبقت، بل لم يكن اليوم نفسه كما سبق من أشقائه لهاثاً لنور وحسن من مركز إيواء إلى آخر، واستثناء من آخره، عصراً، وهما يعودان من مركز صالة الفيحاء التي استقبلت نازحي الغوطة الشرقية منذ أخذ الجيش قراره بالحسم لتحرير قراها وبلداتها التي يسيطر المسلحون عليها منذ نحو ست سنوات.
في طريق عودتهما، نور وحسن، من المركز، وبينما هما يعبران الطريق المؤدي إلى ركن الدين، اضطرب الفضاء حولهما بقذائف المسلحين التي تساقطت فوق رؤوس المدنيين، نساء ورجالاً وأطفالاً، فارتقى عدد منهم شهيداً على الفور، وافترست شظايا القذائف أجساد آخرين، فتدفقت دماء كما يطيش نهر، وتفحمت سيارات بعد حرائق لم يكن ممكناً السيطرة عليها، واختلطت النيران بأصوات الناس وبكاء الأطفال وهدير سيارات الإسعاف التي هرعت إلى المكان، وكانت نور ما تزال تلتصق بجسد حسن، حتى تبدو كأنّه هو، أو حتى يبدو كأنها هي، ولم يتباعد الجسدان إلا عندما انتهى إليهما نشيج طفلة مسجاة على الرصيف والدماء تنزف من غير مكان من جسدها، فهُرعا إليها، وحملها حسن بين يديه إلى أقرب سيارة إسعاف كانت وصلت إلى المكان.
بعد أن هدأ كلّ شيء، وفيما لا يتجاوز الساعة، وبعد أن تابعا طريقهما إلى حيث اعتادا أن يفترقا بعد كلّ لقاء، أطلقت نور نظرة طويلة في عيني حسن، فاضطرب جسد الأخير بتلك الرعشة التي كانت تجتاحه عندما كانت تلتصق به، وقال: “أنتِ لست نوراً على نور فحسب، أنتِ”، وكاد يقول: “نار”، قبل أن تعاجله نور بالقول: “بل نور، نور وكفى. نور منك وفيك”.
كان من عادة حسن كلّ يوم، وما إن يدخل إلى غرفته ويخلع ثيابه، حتى يمضي إلى سريره، ثم قبل أن يغفو لبضع ساعة في قيلولة أدمنها منذ سنوات، يستعيد كلّ كلمة وكلّ فتك لعيني نور فيه، وقد فعل ذلك عصر ذلك اليوم، ولم تكد عبارتها التي استقبلته بها عندما التقيا: “كيف النور؟”، وردّه: “أيسأل النور عن نفسه؟”، فتقول: “طبعاً”، فيقول بدوره: “فكيف أنتِ إذن؟”، فتجيب: “أو لسنا واحداً؟ هل تشكّ؟”، ثمّ عبارته: “أشكّ؟ ربّما في كلّ شيء سوى النور”. لم يكد يستعيد ما سبق من الحوار بينهما، وسواه، حتى أحسّ بأنّ جسده لم يعد جسداً، وبأنه نفسه لم يعد بشراً، بل نوراً يمتطي صهوة غيمة من نور وتسبح في سماء من نور، وبأنّه رأى ضوءاً يبزغ من بعيد، ويومئ إليه بأن يمضي نحوه، ولم يكد يقترب من الضوء، حتى رأى “نور” تصّاعد منه، بل تبزغ كما الضوء نفسه، ثمّ تُهرع إليه، وتلتصق به كما التصقت به ظهيرة اليوم عندما ازدحم الطريق بالشهداء والجرحى والحرائق، وما إنْ دخلته، وكان أشرع باب روحه على مصراعيه لها، حتى انتهى إلى سمعهما تسبيح ملائكة تردد: “قلْ هل يستوي الأعمى والبصير، أم هل تستوي الظلمات والنور؟”، وحتى أرهفت الملائكة سمعها إلى حفيف صوتين، صوت يرنّم: “نور”، وآخر يصدح: “نار”.