“إنه الشرق الذي أعرفه وأحبه”
ترجمة: سمر سامي السمارة
واشنطن بوست20/6/2018
في صيف عام 2006، كنتُ في جنوب لبنان، أكتب تقريراً عن حرب مدمرة دامت لمدة شهر بين “إسرائيل” وحزب الله، وكان أنتوني بوردين حينها في لبنان -بعيداً، في الشمال، عن العاصمة بيروت- ليكتب عن تجربة “غيّرت فيما بعد كل شيء” بالنسبة له.
لم أكن أعرف شيئاً عن بوردين في ذلك الوقت ولم أشاهد برنامجه “بيروت 2006 ” إلا بعد مرور فترة من بثه على قناة “ترفل”، حيث “لا تحفظات”. نعم، انغمس بوردين في بعض كليشهات بيروت العديدة، أطفال بــ”البكيني” بالقرب من نساء يرتدين الحجاب، “على سبيل المثال”، لكنه طرح الكثير من الأسئلة المثيرة حول الصراع والتاريخ والظروف الإنسانية. لقد أثارت هذه الحلقة فضولي -من كان هذا الشيف التلفزيوني على قناة “ترفل”، الذي قدّم مدينتي العربية التي طُعنت كثيراً وأسيئ فهمها- بصورة إنسانية- معترفاً بتعقيدها بطريقة أكثر تأثيراً مما يقدمه الكثير من الصحفيين والكتّاب؟.
قال بوردين إنه خرج من تجربته عام 2006 في العاصمة اللبنانية يغمره شعور بالمرارة الشديدة والارتباك، عازماً على إحداث تغيير إيجابي عبر برنامجه التلفزيوني عمّا “كان عليه من قبل”. وكتب، بعد وصوله إلى بيروت: لم أكن أعرف كيف سأفعل ذلك أو ما إذا كانت الشبكة المنتجة للبرنامج في ذلك الوقت ستسمح لي بفعل ذلك، ولكني كنت على يقين بأن أيام التُرهات السعيدة -التي انطوت على الموجز المُبهج الذي يرفع من المعنويات في نهاية كل حلقة، ودمج مشاهد الطعام المنعكسة على كل فعل في البرنامج- قد انتهت هناك، كان العالم أكبر من ذلك والقصص أكثر إرباكاً، وأكثر تعقيداً، وأقل إرضاءً- ربما ليس أكثر من قصته الخاصة وكيف انتهت حياته!.
أنهى بوردين حياته وسنعرف في الساعات والأيام القادمة المزيد عن رجل كيف مات فجأة، وربما لماذا وهو في ذروة حياته المهنية؟ رجل كان يتمتّع بشخصية جذابة ويرغب كل شخص بأن يكون مثله أو على الأقل الالتقاء به.
من المهم أيضاً أن نتذكر كيف عاش بوردين، على الأقل على شاشاتنا، بداية على قنوات الطهو ثم قناة “ترفل”، كان مستعداً للذهاب إلى أي مكان، لتناول أي شيء، ومقابلة أي شخص، بحث في كل جديد ومختلف. بالنسبة لبوردين، لم يكن العالم مكاناً يثير الخوف أو السخرية، لم ينظر بدونية للأماكن الأجنبية التي زارها، لم يَرَها غريبة أو متخلفة ولم يدرج صفة مهينة لها، ولم تكن نظرته مستشرقة.. فقد كان لديه فضول وانفتاح ورغبة كبيرة في التعلّم والتفهم.
الشرق الأوسط لا تنقصه الديمقراطية
شعوب مركبة مثل الأماكن التي ينحدرون منها، رأى بوردين الإنسانية “والطعام” في كل مكان. في بيروت عام 2006، تناول الحمص، الكبة، الدجاج المشوي، تناول المشروبات اللبنانية.. كانت الحقائق تتخطّى الطعام والمأكولات التي يقدمها في الأطباق، لقد وضع منهجاً جديداً يستخدم المحادثات عن الطعام ليروي قصة وسياسات الدول التي زارها بطرق لم تستطع الأخبار فعلها، لقد استخدم الطعام، وهو الأكثر تنوعاً، ليعلمنا عن بعضنا البعض، كلنا نأكل، ونقوم جميعاً بإعداد وجبات الطعام بشكل مختلف، لكل “قصة الطبق” يمكن أن تقول شيئاً ما عن المجتمع، وما يقدمه أو ما الذي لا يقدمه، وكيف تنتهي بعض المكونات من خلال خلطها، الطعام المغذي، إنها الراحة، الهوية والتقاليد والتاريخ والذاكرة. خلال إعداد بوردين الطبق، كان ما يقوله كثير من الناس عن برنامجه هو: “هذا ما أنا عليه.. وأريد مشاركته معك”.
التنوع، من منظار بوردين، كان جميلاً وتعليمياً، ذكرنا أنه لا زال هناك أجزاء كثيرة غير معروفة، حتى ضمن تقريره داخل الولايات المتحدة. “نهج” أصبحنا بأمسّ الحاجة إليه، في وقت تسهّل فيه وسائل الإعلام الاجتماعية تصفية “الآخر” وتوجيه النقد اللاذع للأشخاص المختلفين بطرق مختلفة. يمكن لبوردين أن يكون كوميدياً مع عدم الظهور بمظهر المتنازل، ساخراً دون أن يكون فظاً- على الرغم من أنه يتناول الأمور من وجهات نظر سياسية، وخاصة حول رئاسة ترامب والنباتيين… لم يخجل من الاعتراف بما لديه من ضروب التحيّز ومن الأمور التي لم يكن يعرفها.
في الساعات التي تلت وفاة بوردين، كان حسابي على تويتر مليئاً بالشرق أوسطيين، والآسيويين والأميركيين الجنوبيين الذين يشكرون بوردين لزيارة بلدانهم وتصوير ثقافاتهم من خلال عدسة اتّسمت بالتواضع والاحترام والفضول في آن معاً. عرض بوردين عبر برنامجه على شبكة قناة “ترفل” التلفزيونية بعد أن عاد إلى مدينتي بيروت عام 2015 ، “أماكن لم تكن معروفة”. وقال إنه وقع في حب العاصمة اللبنانية، لدرجة أنه كتب ذات يوم أنه يفكر في أن يُطلق اسم بيروت على ابنته حديثة الولادة، وكتب يقول: “إنها مدينة لا بد لك من زيارتها فهي تتحدى المنطق، والتوقعات، إنها رائعة”.
وهكذا كنت أنت أيضاً “أنتوني بوردين” بنظرتك إلى العالم، الشيف الذي احتضن الاختلاف في عالم يتزايد فيه عدم التسامح، الرجل الذي رأى بيروت –والكثير من الأماكن الأخرى بأنها مفرطة في البساطة تمّ تهميشها وشيطنتها– حسب رغبة البعض.