السّوريون
حسن حميد
أقدر عالياً هذه العطاءات الأدبية التي بذلها ويبذلها الأدباء في سورية من أجل مواجهة مرآة الحرب منذ بداياتها الكريهة في عام 2011 وحتى هذه الساعة، وقد بات لدنيا وفرة من الأعمال الأدبية التي يفتخر القارئ، والناقد، والأديب، بأنها جاءت توليداً عن هذه الحرب التي كانت أكثر من غولة شربت الدماء، وملأت المقابر، وسوّدت النهارات، وخوّفت الناس، ودمّرت الحياة، وقصّت الأحلام، وبنت عموداً طويلاً من القرف والعذاب والانتظار وعلّقت الناس عليه!
لدينا اليوم، حوالي سبعين رواية تدور في مدار الحرب جلواً لأغراضها، وإبداءً لمشاهدها الدامية، وتجسيداً لآلامها، وتصبيراً لأحزانها، وطيّاً لأحلام الناس، وبناء لبطولات أهلها بدءاً من الالتصاق بالمدارس والكتب إلى الحضور في الخنادق والجبهات، وهذا كم روائي مهم سيشير إلى درجات الحرق التي أحدثتها الحرب في ذات كل مواطن سوري عاش الحرب أحداثاً ووقائع وأخباراً وهموماً ولوعات وأمنيات؛ وفي هذه الروايات ـ على اختلاف معطياتها وزواياها ورؤى كتّابها ـ يحضر المكان السوري بوصفه سيادة، ودارة اجتماع عمرها من عمر الزمن، وبوصفه مكاناً يجول طيَّ الأرواح، وعلى صفحاته منقوشة أفعال الأجداد والآباء وآثارهم التي غدت علامات للمقاومة من زمن فاقت مدده آلاف السنين، وبموازاة المكان السوري تحضر الذات السورية التي تميّزها صفتان داهشتان في جمالهما ومعانيهما الآسرة، الأولى هي ثقافة الحنين لكل تفصيل سوري.. من طبق القش، والمغمقانات، إلى الحناء، والكحل، والشرفات، ونباتات الحبق، والمديدية، وعرائش الياسمين، والدوالي، وأشجار الطيون، والسدر، والدلب، والكستناء.. إلى كراسي القش الصغيرة والطاولات النحيلة.. وفناجين القهوة التي تغني بين أيدي جلاّس المساء، إلى إشراقات الضوء، وجهجهة فجريات الورد التي تردد بالشوق الأتم: مرحباً يا صباح! والصفة الثانية هي ثقافة الدفاع عن كل تفصيل سوري وبالعزيمة الكاملة، ولعل هاتين الصفتين واكبتهما، وفي جميع الأحوال، صفة للمباهاة والمفاخرة هي الكبرياء السورية التي حالت، وعلى الرغم من فظاعة ما جرى، بين السوري والانحناء! وهذا ما حبّرته الروايات السبعون، وهذا ما أكدّته أيضاً، ومما واقفته الروايات هو استبطان الذات السورية وهي ترى مشاهد خراب الغوطتين، والأنهار العزيزة، والمدن الحضارية، والطرق الرحيبة المأنوسة، والحقول التي تشيل بها أغنيات الأحلام، والسماوات المرفوعة جذلاً فوق رفوف الطير.. هذا الاستبطان سجّل الصرخة السورية الواحدة من رأس العين إلى حرش جباتا الخشب، لبيك يا وطن الأمجاد، لأن البيوت، والقرى، والمدن، والمدارس، والحقول، والدروب، والأودية، والتلال، والجبال، والكهوف، والشطآن.. والناس صرخوا هذه الصرخة التي وصلت بكامل دفئها وحضورها وقوتها إلى القريب والبعيد، والصديق والعدو في آن! وهذا الفعل النبيل لهذه الروايات كافٍ ليكون مدونة لحراس الضوء، والمعنى، والقيم، والحياة! صحيح أن موجعات كثيرة تسري في أحياز هذه الروايات، لكن الأحلام والآمال تسري فيها أيضاً، وعندي أن حضور الأم السورية داخل أبهاء هذه الروايات بوصفها راعية القيم لهو المؤشر الأهم على صمود البيت السوري، والحفاظ على مدونة القيم، واليد الآتية بالنصر عن طريق أبنائها الذين، وهم في طراوة العمر، غادروا الكثير من الميادين ليكونوا في ميدان المواجهة حيث هو الرصاص، والمقدامية، والجرأة الوطنية، لولا هؤلاء الأمهات السوريات لما ردف الأخ أخاه الشهيد في مكانه، ووطنيته، وجسارته النادرة، مع أن الحزن، ومشاهد الجنازات، والبكاء العميم أدمى قلوب هؤلاء الأمهات! إن ما جهرت به روايات الحرب وما أكدته عبر معادلة: الحياة عبر التضحية، والمجد عبر الثبات، والكبرياء عبر الوقفات الشدود، والصبر عبر الإيمان المطلق.. لهو أمر كافٍ، وفيه الأمثولة التي كتبت تاريخ سورية الحديث بأشواق السوريين.. أناشيد سيطرب الزمان لها وبها.. ويغتني!.
Hasanhamid55@yahoo.com