التّفكيك بين التّحليل والهدم
لعلّ كتابيّ (الخطيئة والتّكفير، من البنيويّة إلى التّشريحيّة) للدّكتور “عبد الله الغذّامي” المنشور أواسط الثمانينات، و( بنية الخطاب الشعري، دراسة تشريحيّة لقصيدة أشجان يمانيّة للشاعر اليمني عبد العزيز المقالح) للدّكتور “عبد الملك مرتاض” المتضمّن قراءة تحليليّة وفق المنهج البنيوي والتحليل اللساني للأدب. يعتبران من أوائل الالتفاتات المبكرة في تطبيق المناهج النّقديّة الغربيّة الحديثة على الدراسات والنصوص الأدبيّة، بينما اكتفتْ الدراسات العربيّة الأخرى بالحديث عن الأطر النظريّة لهذه المناهج وبالتّحديد المنهج التّفكيكي، نائية بنفسها عن تطبيقاته العمليّة. ومرجع ذلك يعود برأي د. “شجاع مسلم العاني” لسببين: أوّلهما يتعلّق بآليّات وإجراءات التّطبيق التي تتّسم بالصّعوبة والدّقّة، وثانيهما، ما ينطوي عليه هذا التّطبيق من أثر أيديولوجي يهدف إلى تهديم المركز أو نقضه.
ومن الذين آمنوا بالتّفكيك منهجاً قائماً على الهدم لكلّ مركز معرفي وثقافي واجتماعي وسياسي، النّاقدان الشّاعران “أدونيس، وكمال أبو ديب” ففي نقاشاتهما الدّائرة حول الحداثة والحداثويّة. يقول أدونيس: “يبدأ الفكر الإسلامي بتفكيك ذاته أو لا يكون” لأنّ الحداثة هي: “هدم وانشقاق بالضّرورة للنظام المعرفي القائم بأكمله… وإلّا لن يكون في المجتمع العربي حداثة ولا فكرا حديثا”.
إنّ منهج التّفكيك الذي ارتبط باسم مؤسّسه المنظّر الفرنسي “جاك دريدا” قام في حقيقته على هدم الميتافيزيقيا الغربيّة، والمركزيّة التي عرفها الخطاب الحضاري الغربي الخارج من عباءة اللّاهوت، مركزاً على مسألتي “الأصل” و”الهويّة” محاولاً دفع الخطاب نحو مزيد من “الاختلاف” عبر الاستفادة من سلسلة من الكلمات الفرنسيّة، التي تحمل إمكانيّة هذه الخلخلة نظراً لازدواجيّة معانيها وتناقضها. هذا “الاختلاف” يمكن فهمه بالإحالة إلى معناه عند العالم اللغوي “دي سوسير” الذي يرى أساساً أنّ المصدر في اللّغة قائم على الاختلاف، فلفظة “كتاب” تحيلنا إلى معنى ومدلول يعبّر عنها، يختلف بالضرورة عن معنى ومدلول “لفظة قطار” مثلاً، ويختلف عن معاني ومدلولات ألفاظ كثيرة أخرى يجري تداولها في الحياة، حيث المعنى عبارة عن حاصل الفرق بين إشارتين من جهة، كما هو حاصل الفرق بين إشارات أخرى “نبع، طاولة، إبريق” فهو أشبه بلعبة دورانيّة لا حدّ لها. يقول “تيري إيغلتون” بهذا الشّأن، لنفرض أنّ المعنى غير موجود في الإشارة اللّغوية، مادام قائماً في اختلافها الدائم عن الأشياء الأخرى، فهو إذن غائب عنها ومبعثر وغير موجود بإشارة لغويّة لوحدها، فهو بحالة نوسان مرجأة بين الغياب والحضور المستمرّين، وهذا ما سمّاه “دريدا” بمفهوم “الإرجاء” الذي يشير إليه الفعل “يختلف”، وقد أعتبرَ ضربة صميميّة لكلّ ثبات ومركزيّة للمعنى في النّظريّات التّقليديّة.
اللّغوي المطمئن لأفقيّة اللغة، يرى في جملة: (ضرب الأستاذ الولد) اكتمالاً للمعنى، أمّا التّفكيكيّ فيقلّب الأمر على أوجهٍ مختلفة، حيث الفعل “ضرب” هو إشارة لغويّة تحمل معانٍ مرجأة، قابلة لأكثر من قراءة، فقد يكون المقصود “ضربه مثالاً في الكسل، أو الاجتهاد أو الأخلاق العالية) وقد تكون ذات معنى مباشر أي، ضربه بيده أو بمسطرته مؤدّباً.
وثمّة مفردة مزدوجة المعنى أيضاً درجتْ في القاموس الدّيريدي، هي لفظة “الأثر” التي تشير لغياب معنى الشيء وبقائه أيضاً في شيء يدلّ عليه، وهذا يذكّرنا ربّما، بغياب وجه الشّبه بين المشبّه والمشبّه به في اللغة العربيّة وبقاء أثر يدّ ل عليه. أي، شيء من حضور الغياب بطريقةٍ ما، كعلامة شاردة مرتبطة بسياقات وعلامات لغويّة سابقة، وكذلك في علاقات جديدة تهبها مدلولات أخرى. فلا قيمة للعلامة اللّغوية لوحدها بل في سياق تعارضها مع غيرها واختلافها الذي يجب أن يكون محلولاً فيه كإمكانيّة مسبقة. يقول “دريدا” في تعريف “الأثر”: (إنّ كلّ عنصر يتأسّس انطلاقاً من الأثر الذي تتركه فيه العناصر الأخرى في السّلسلة أو النّسق، عبر لعبة الآثار والاختلافات والإحالات المتبادلة حيث تنشأ تفضية ومسافة وانزياحات وفواصل..) وهذا ما يدعى بوحدة الكتابة، ذاك النسيج الذي يرينا أنّ ثمّة في كلّ شيء كتابة بما في ذلك الكلام المنطوق.
للتّفريق بين الحداثة والحداثويّة يعرّف “كمال أبو ديب” الحداثة بأبسط شكل لها: (وعي ضدّي للزمن، ووعي ضدّي للذات في الزمن ومن هذا الوعي الضدّي للزمن، يأتي كون الحداثة، بدءاً رفضاً واعياً للسلطة، وعلاقة لا بالماضي فقط، بل بالآخر، الآخر بما هو عالم قائم في تشكّل، جاهز للأجوبة، مكتمل اللغة، في سلام مع نفسه ومع العالم، والحداثة اختراق لهذا السلام مع النفس، ومع العالم، وطرح للأسئلة القلقة التي لا تطمح إلى الحصول على إجابات نهائيّة، بقدر ما يفتنها قلق التساؤل وحمّى البحث). ويصل الباحث إلى صيغة سؤال اجتماعي سياسي: “هل يمكن القول إذن أنّ مسار الحداثة في الكتابة العربية يتشكّل في تناسب طرديٍّ مع تاريخ السلطة، وتناسب عكسي مع تاريخ الحريّة؟ كلّما ازدادتْ حدّة القمع وشموليّة السلطة، زادتْ حدّة انكباب المبدع على النصّ وتفجيره من الداخل، وكلّما ضاق أفق الحريّة في العالم الخارجي تنامى بعدُ الحريّة في التّعامل مع النصّ من الداخل”.
هكذا نلاحظ أنّ جوهر المنهج الدّريدي يتضمّن بعداً سياسيّاً اجتماعيّاً يرمي إلى خلخلة منظومة معيّنة في التفكير، ليعيد تشكيلها من جديد بفضاءات أخرى. وهذا ما يخشاه دعاة التقليد وحاملو لواء المحافظة على الإرث التاريخي، والأصول المقّدسة للغة طاهرة لا يمسّها الباطل. ولا يعتريها الوهن والضّيق والقصور. وهذا ما فعله بعض أتباع “دريدا” من النقّاد الأمريكيين، إذْ عمدوا ـ كما يقول ـ إلى ضمان انغلاق المؤسّسات والنّظم التي تخدم المصالح الأمريكيّة. بمعنى أنّ إستراتيجية القراءة الجديدة المقترحة من قبله يمكن أن تفضي إلى طريقين، ليسا فقط مختلفين وحسب، بل ومتناقضين تماماً.
أوس أحمد أسعد