“بريكس” في قلب القارة السمراء
من المنطقي جداً أن تكون أفريقيا وجهة القوى الاقتصادية الصاعدة، فبعد الانكسارات الحادة التي أحدثتها روسيا في العلاقات الدولية ومن ورائها الصين، العملاق الاقتصادي القادم بقوة عبر طريق الحرير، كان لابد من أن يصل ذلك الطريق إلى أفريقيا، القارة المنسية من شقيقتها الآسيوية. والآن من المؤكّد أن الاتجاه الأفريقي هو من بين أولويات روسيا التي تمّ تثبيتها في النسخة الجديدة من مفهوم سياسة البلاد الخارجية، فإمكانات التعاون مع دول إفريقيا التي تشكلت في الحقبة السوفييتية لم تذهب هباءً، واليوم يبدو أن السمة الرئيسية في بناء علاقات روسيا الخارجية هي الابتعاد عن الايديولوجيا والتوجّه نحو التعاون متبادل المنفعة، خاصةً مع جذب الدول الأفريقية انتباه الشركات الروسية في قطاع النفط والغاز، ومرافق الطاقة النووية، وأنظمة الاتصالات عبر الأقمار الصناعية.
ويبقى التعاون العسكري التقني مجالاً هاماً بعد أن ارتفعت صادرات الأسلحة الروسية التي أثبتت فعالية كبيرة خلال حربها على الإرهاب، لأن أنظار مشغل الإرهاب حسب معظم التوقّعات تتجه إلى القارة السمراء، ولهذا فإن التموضع الجيوسياسي منذ الآن لابد أن يأخذ شكل المنافسة غير المباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية في القارة السمراء.
في بلدان جنوب الصحراء الكبرى، تبلغ حصة الأسلحة الثقيلة الروسية 27 ٪، وفي شمال أفريقيا 30 ٪، وهناك حوالي 700 مروحية روسية تعمل في القارة، وتطمح روسيا لرفع هذا العدد عبر بناء الشراكة الاستراتيجية مع دول أفريقيا.
من هذا التوجه، انطلقت القمة العاشرة لمجموعة “بريكس” في جوهانسبورغ بمشاركة قادة روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا لمناقشة قواعد اللعبة في الاقتصاد الرقمي في عصر الثورة الصناعية الرابعة. اجتماع دول “البريكس” هو الأول لها بعد استعار الخلافات التجارية بين دول العالم وأمريكا، لكن محاربة الإرهاب وتنسيق السياسات الاقتصادية والتجارية لا يزالان من أولويات عمل المجموعة، بالإضافة إلى التصدي للمواقف الأحادية الجانب في الشؤون الدولية، وحماية الأطر متعددة الأطراف، والاستفادة من الثورة الصناعية الرقمية الرابعة.
في الواقع، وجّهت قمة “بريكس” رسالة مفادها أنه من الضروري الحفاظ على منظمة التجارة العالمية، والتصدي للحمائية التجارية، وتغيير قواعد التجارة العالمية ورغم أن دول “بريكس” ليس لديها الكثير من القواسم المشتركة، لكنها جميعاً تؤيد فكرة خلق عالم متعدد الأقطاب، خاصة أن جميع دول “البريكس” قلقة للغاية بشأن السياسة الأمريكية الحالية بسبب استخدام الأمريكيين النشط لسيطرتهم على المؤسسات المالية العالمية لأغراض شخصية.
وبما أن روسيا تقود الجناح العسكري والاستراتيجي، فإن الصين بدورها تقدّم مفهومها للعولمة على الطريقة الصينية- إنه تعاون دولي على مستوى عالٍ، ولكن على عكس الشكل الحالي الذي تقدمه الولايات المتحدة – يقوم هذا التعاون على احترام السيادة وبعض الخصائص السياسية الداخلية للدول الشريكة، وهذا بالتالي يقود إلى رفض الحروب التجارية العالمية، ورفض النزعة الانفرادية في أعقاب تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بفرض رسوم جمركية على واردات من شركاء تجاريين.
كان لابد لدول بريكس أن تعقد اجتماعها في جوهانسبورغ كي تشمل أفريقيا برعايتها، وتتحدّى الولايات المتحدة كون إدارة ترامب أطلقت مسعى لإعادة موازنة التجارة متعددة الأطراف والتي وصفها ترامب نفسه بغير العادلة، ما يتطلب الحزم في رفض النزعة الانفرادية، لأن الصعود الجماعي للأسواق الناشئة والدول النامية “غير قابل للإيقاف، وسيجعل النمو العالمي أكثر توازناً”، بحسب الرئيس الصيني.
علي اليوسف