في الأوّل من آب.. يهز الجيش حولك جانبيه
مع بداية قطاف العناقيد والفاكهة الحلوة العصير والعبق، ومع الزمان الذي يبدو كخلفية رمزية لصورتك متكئا على حجر وتبتسم، يجيء يوم ميلادك في الأول من آب كما النسمة في يوم قائظ، ليُحلي القلوب بشراب نوراني مُحلى بالفخر، رائحته نور على نور.
مرت الأيام والأسابيع والشهور، ركضت السنون وتعاقبت الدهور والفصول، تغير العالم وتراكضت جغرافيته خلف بعضها البعض، أعاصير اقتلعت ممالك ورمال ابتلعت صحراءها، وأنت واقف كجبل منيع لا يتزحزح تزول الدنيا ولا يزول، القلب على البلاد والروح لها، أما الحرّ والبرد والجوع والعطش، فهي حاجات ليست بذات قيمة عندك، عند من كان الخلود مُرضعه، والنور منبته، والحبق عطر أنفاسه.
لا ترتدي البزات الفخمة “المؤمركة”، بل هي بزتك الرسمية المبرقعة بقماشها السميك، وخياطتها الواحدة، تلك التي حاربت معك وشربت رائحتك حتى الثمالة، حتى صارت من حرير الأبد ومخمل الوجود؛لا تحمل “الرشاشات” القتالية المتطورة وآخر صيحات السلاح الآلي الخفيف المناسب لحروب الآن، بل إنك وفيّ للكلاشينكوف التي صارت تعرف قيمة قدرها وعظيم فعلها وهي بين يديك، ربما ذهب قشاطها، وربما سيخ التنظيف ليس في مكانه، لكن الطلقة في بيت النار، والزناد يغفو مطمئنا إلى زند متين العزيمة شديد المراس، حنون الطباع.
ترى إلى السنون كيف تهر كورق الخريف أمام قدميك وكيف تيبس الأيام على أكتافك،كيف يموت من هرب من الموت في البحار ومن الجوع وفقر دم الكرامة،لكنك على سلاحك أبدا وكأنكما توأما بروح واحدة، قد تذهب أنت ويبقى عنك يقاتل.
الحق أقول لك أننا هاهنا لم نعد نراك نبيا كما كنا نفعل من قبل،الآن ننظر إليك وكأنك الأبد وكل ما عداك بدد،نرنو إلى الحياة تتدفق من بين شعيرة بندقيتك وأصبعك الحنون على الزناد كرفيق أمين.
ما بيقيك راسخا ثابتا مؤمنا صاحيا كسلاحك، صار غلال قلبك وما فيه من حنطة بقاء وخلود، تذره كل صباح في تراب الوطن كل الوطن، وفي المساء تجلس ويداك تلف سيجارة، تبغها كان والدك قد زرعه في البستان الصغير خلف بيتكم، ثم تنظر إلى كرومك كيف أينعت تباشير صبح سيندلع من تحت بسطارك عما قليل فتبتسم.
أخاطبك وأنا الجالس إلى نافذتي اشرب القهوة واستمع إلى غناء بعيد وأنت الجالس إلى سلاحك في ثكنة الحرب، عيونك ترصد الحياة والموت،أما النجوم والكواكب “تتناوق” عليك،هل تعلم أنني أحسدك؟ هل تظن أنني أنا القادر على رؤية أحبتي متى أشاء وأضم زوجتي وأطفالي متى أشاء واستحم متى أشاء وأتذمر متى أشاء، هل تظن أنني لا أتمنى أن أكون مكانك؟ مثلك لا يتهمني بالجنون لأنك تعلم ما اعنيه، فأنت مررت به، ولكن كل مكان أنت فيه، يتمنى أي عاقل أن يكون فيه، لأنه حتما المكان الذي لا سقف له إلا الكرامة، وكل أبوابه تصب في العبير والعنبر.
ماذا أقول عن نظرتك في ارض المعركة إلى النجوم،كم تتوقع أن تكون هذه النظرة لوحدها بما فيها من زخم روحي قوي الوجد تساوي من ملذاتنا التافهة “نت وتلفاز ودوش بارد،وجبة غذاء ساخنة وموعد في زقاق يقال انه شعري، وهو من بعض كوابيسك ربما يا بن الكروم، هذه النظرة الصافية كما لا شيء سواها، وحدها تستحق أن تُخلد في كتاب الزمان، فمن ينظر، أي أنت، ينظر بمنظار الأبد.
دع عنك هذه وخذ تلك: ماذا تعني لك نظرة رفيق سلاح ذهب ليأخذ قسطا من الراحة، واثقا أنك ستموت دونه إن حدث اشتباك ما؟، ماذا تعني لك رصاصة اخترقت قلب عدوك ورصاصة اخترقت قلبك فانتهت الحرب وذهبت لنوم جميل؟،ماذا يعني لك زمن يتجمد في لحظات الكشف المبهر لبصرك يرى كيف يضحك أولادك امنين وأمك على عادتها تخرج إلى شرفتها يوميا لتقرأ عليك السلام، ثم تشحذك بكل خشوع أهل الأرض والسماوات من ربها ، يديها معلقة بين السماوات والأرض والدعاء يكرج من شفتيها كصغار قطا “ربي شحدني ولدي”.
إلا أن لحظة ما لن أستطيع أن أسألك عنها باعتبارها لحظة خاصة بين العائد محمولا على ظهره يرى الغيوم في السماء ومن بينها يطل وجه القدير يرحب بضيفه الكريم، وبين من ينظر إلى عينيه المغمضة وهو يعلم كم من حلم ملون بالمجد يغفو بين تلك الأهداب المكحلة بكريم التراب..
ولكن لو تعلم أيها الرابض إلى موته كما يربض عاشق على طريق بيت محبوبته، أنني اكتب هذه الكلمات، ويدي تشتهي زنادا مرت يدك عليه، وروحي تتمنى موتا شهيا بهيا عزيزا كريما، كذاك الموت الذي حطّ على كتفك كصقر وبين عينيك هدأت روح الحرب كطفلة صغيرة أتعبها اللعب فأسلمت غفوتها لك أنت من لا يغفو ولا ينام.
أخبروك أن الموت أن تخسر كل شيء مقابل أن تربح قسطا تافها من الراحة، فقلت: والحياة أن تربح أنفاسك القليلة بينما القدر يحصد بمنجله الهواء الأنفاس، تلك التي ما تزال معلقة بين القلب والشهيق.
فليكن إشراقك عيدا في مطلع كل يوم، وليكن عظيم ونبيل فعالك، واجبا مدرسيا، يكتبه أطفل سورية إلى الأبد.
تمّام علي بركات