جدار المال يتحول إلى مشنقة
عبد الرحمن غنيم
كاتب وباحث من فلسطين
هناك جدران فعلية يقيمها العدو الصهيوني بغرض العزل بين المناطق، أو بغرض إضعاف أو شل قدرة المقاومة على اجتياز تلك الجدران، رغم علمه بأنه ما من جدار يمكن أن يحول دون إمكانية الاقتحام متى توفرت الإرادة والقدرة، ومن أمثلة هذه الجدران جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، والجدار المسمّى بغلاف غزة، والجدران والأسيجة التي أقامها العدو على امتداد الحدود أو خطوط الفصل مع لبنان وسورية، لكن هذه الجدران ليست الأكبر ولا الأهم ولا الأكثر تأثيراً وفاعلية بالقياس إلى تلك الجدران الافتراضية التي بات التفكير في اختراقها أو التخلص منها يمثّل إشكالية كبرى، وبات الامتناع عن اختراقها يمثّل مشكلة أكبر.
حين ننظر إلى الوضع الفلسطيني الراهن، وما آلت إليه الأمور في الساحة الفلسطينية بشكل عام، سواء داخل الوطن المحتل أو في الشتات، وما ينطوي عليه هذا الوضع من التحديات، نشعر بأن هناك أكثر من جدار افتراضي نصب في وجه الفلسطينيين، وبات تجاوزه أمراً في غاية الصعوبة، فالفلسطيني لم يعد في الكثير من أماكن تواجده لاجئاً أو ضيفاً بقدر ما تحوّل إلى رهينة، والخوف من أن تتكرر سابقة إبعاد الفلسطينيين من الكويت في أعقاب احتلال صدام للكويت عام 1991 لذنب لم يقترفوه هم، تحوّلت الآن إلى شبح يلاحقهم في أكثر من مكان، لكنه بات شبحاً أكبر بالنسبة للسلطة الفلسطينية، لأن مصادر تمويل الاقتصاد الذي تديره هذه السلطة، أو الذي يدير نفسه بنفسه بشكل تلقائي في بعض القطاعات يعتمد إلى حد كبير على التحويلات المالية للعاملين الفلسطينيين في البلدان الأخرى، أو على وكالة الغوث، وإذا كانت وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين تتحمّل جزءاً هاماً من تكاليف تقديم الخدمات لحوالي نصف الشعب الفلسطيني، فإن مساعدة العاملين الفلسطينيين في الأقطار الأخرى لذويهم تشكّل جزءاً كبيراً من تغطية النفقات، وتأتي المساعدات أو المخصصات المالية التي تحصل عليها سلطة الحكم الذاتي المحدود الفلسطينية لتغطي جزءاً ثالثاً، وهناك مصادر أخرى جانبية، ولكنها تبقى ثانوية وغير مضمونة الاستمرارية، ولكن المشكلة التي تتبلور ملامحها الآن تتمثّل في تحويل هذه المصادر للتمويل أو أهمها إلى جدران لشنق الفلسطينيين، وبشكل جماعي، بعد أن كان يجري استثمارها لشنق الإرادة الفلسطينية التي وجدت نفسها عاجزة عن اتخاذ موقف وطني أو قومي أو حتى إنساني مستقل يتناسب مع فهم الإنسان العربي الفلسطيني للأشياء، ورهاناته للمستقبل، ومشاعره كإنسان دون أن يوضع في حالة ارتهان، وهي ظروف قذفت بالكثير من أبناء شعبنا الفلسطيني من الشتات القريب إلى الشتات الأبعد، بينما ازدادت الضغوط على الآخرين في الداخل، وخاصة في قطاع غزة، ومن بين هذه الضغوط أطلت أشباح لم تكن لتخطر لأحد على بال، بما فيها شبح أن تكف وكالة الغوث عن تقديم خدماتها، أي أن يحرم اللاجئ الفلسطيني من مساعدة هي أقرب إلى الكفاف، ولكنها تشكّل عنصراً من عناصر البقاء.
ثمة معطيات في الواقع تشير إلى أن هناك أطرافاً عربية تعاملت مع المقاومة الفلسطينية، ومنذ البداية، على قاعدة ارتهان هذه المقاومة لمموليها، وسواء كانت هذه الأنظمة هي التي فكرت ومكرت، أو أن هناك جهة أو جهات استعمارية كانت وراء هذا المكر وهذا التفكير، فإن النتيجة واحدة طالما أن هذه الجهات الاستعمارية مازالت تحكم قبضتها على تلك الأنظمة.
أزمات داخلية
في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، وبعد انطلاق المقاومة الفلسطينية في مطلع عام 1965، واجهت حركة فتح أول أزماتها الداخلية، وكان محور هذه الأزمة يتمثّل في الخلاف هل تكون علاقة المقاتلين بالمنظمة علاقة المتطوع لتنفيذ عملية من حين إلى حين، أم علاقة المتفرغ؟.. فعلاقة التفرغ تفترض أن يتخلى المقاتل عن عمله الأصلي الذي يعيل من خلاله نفسه وعائلته، ما يوجب دفع تعويض ثابت له كمقاتل متفرغ، وعندئذ، لابد من موازنة مالية تغطي النفقات، وهذه الميزانية تحتاج إلى موارد مالية، والحاجة شبه الدائمة والمنتظمة والمتزايدة لهذه الموارد المالية من شأنها الارتهان لإرادة الأطراف الممولة، وكلما زادت هذه الحاجة مع نمو التنظيم زاد حجم الارتهان، وبالتالي، فإن الخلاف الذي حدث داخل الحركة كان خلافاً بين من لا يرون وجود مشكلة في مصادر التمويل، ومن يتحسبون من مسلك تلك المصادر.
إن الحقيقة التي يجب أن نسلم بها هي أن العديد من الفصائل الفلسطينية التي جرى تأسيسها في تلك الفترة على نيّة ممارسة المقاومة لم تستطع الاستمرار وأداء الدور الذي أسست من أجله، وانتهت إلى طي صفحاتها بصمت لأنها عجزت عن حل مشكلة التمويل، وبعض هذه الفصائل تعرّض قادتها المؤسسون للاغتيال ربما بتآمر خفي من جهة ما لتحرمها من فرصة الحصول على التمويل من مصادر معينة، خير تلك التي تهدف إلى التحكم بالمقاومة على المدى الطويل، وقد حصل هذا حتى بعد أن كانت تلك الفصائل قد اتحدت مع فصائل أخرى، ولا داعي للدخول في تفاصيل هذه المشكلة، أو الحديث عن مصائر بعض الفصائل وقادتها المؤسسين، ولا في التفكر في طبيعة الجهة أو الجهات التي مارست مثل هذا الدور والحسابات الفعلية الكامنة وراء ذلك.
كل ما يمكننا قوله الآن هو أن خلاف الرأي الذي ثار داخل حركة فتح في ذلك الحين، وكانت قد شرعت في ممارسة الكفاح المسلح، كان بالتأكيد يعكس نوعاً من الخلاف في الثقة تجاه الجهة أو الجهات الممولة، وفوز وجهة النظر القائلة بالتفرغ وتمويل احتياجاته يعني أن وجهة نظر أصحاب العلاقة مع الجهات الممولة والمطمئنين إليها هي التي تغلبت، فمن كانت تلك الجهة أو الجهات؟ وهل كان التمويل شحيحاً أم خلاف ذلك؟.
لنتذكر أولاً ونحن نحاول الإجابة عن هذا السؤال أننا نتحدث عن فترة لم تكن فيها فصائل المقاومة قد وضعت يدها على قيادة منظمة التحرير بعد، وبالتالي، كان على هذه الفصائل أن تعتمد على مصادر تمويل خاصة بها، وليس على ضريبة التحرير التي كانت تجبى لصالح الصندوق القومي لمنظمة التحرير، ولنتذكر ثانياً أننا نتحدث عن فترة لم تكن فيها قد اتسعت دائرة تشكيل الفصائل وانخراطها في النشاط المقاوم، وبتحديد أكثر، فإننا نتحدث عن الفترة السابقة على حرب حزيران عام 1967.
جدار المال
هناك واقعتان تعودان إلى ذلك الزمان من شأنهما توضيح الموقف وما كان عليه، ولعلهما تبيّنان نقطة البداية في تشكّل جدار المال الذي نعاني من وطأته الآن ونواجه أكبر المخاطر.
الواقعة الأولى تتمثّل في أن عرفات كلف احدهم في منظمة حزب البعث في قطاع غزة، باستقطاب خلايا مقاومة لصالح حركة فتح، وقد نجح الأخير في تعبئة قرابة 40 مقاتلاً قاموا بتنفيذ عدد من العمليات في منطقة النقب، ولكن المهم هنا أن الإنفاق على هذا التنظيم واحتياجاته– وكما أبلغني المعني بنفسه بعد إبعاده إلى القاهرة– كان يحصل عليه من ثلاثة أشخاص كلهم من قادة جماعة “الإخوان المسلمين” في قطاع غزة آنذاك ومنهم: الشيخ هاشم الخزندار، ورياض الزعنون رئيس المجلس الوطني حالياً، ورجل أعمال من الجماعة، وهذا يعني أن قناة التمويل كانت تمر عبر جماعة “الإخوان المسلمين”، ولكن من المستبعد تماماً أن تكون الجماعة هي الممولة، والأرجح أن تكون بعض الأنظمة الخليجية هي مصدر التمويل، وهنا لابد أن نركز الانتباه على ثلاثة أطراف هي السعودية والكويت وقطر، ومن الملائم هنا القول بأن النفقات لم تكن تشمل رواتب تفرغ، وإنما كانت تنصب على تأمين الاحتياجات والنفقات الجارية المرتبطة بالعمليات، وبالتالي فقد كانت ضئيلة نسبياً.
أما الواقعة الثانية، والتي أبلغني بها الشخص نفسه في ذلك الزمن، أي عام 1966، في أنه في ضوء واقعة معينة مرّ بها في الاسكندرية والقاهرة قال له الأخ ياسر عرفات: أنفق دون تحسب!.. وقد بدا مندهشاً من مثل هذا التوجيه الذي يعني أن لا شعور لدى القيادة بوجود مشكلة في التمويل، فمن أين جاءت مثل هذه الثقة تجاه استمرارية التمويل ولامحدوديته؟!.
والواقع أن النشاط التنظيمي في ذلك الحين كان واسعاً ومتعدد الأقطاب والاستقطاب، ففي قطاع غزة تبيّن وجود أربعة خطوط تنظيمية على الأقل، كل منها مستقل تماماً عن الآخر، لكن المشكلة لم تكن في هذا التعدد فهو طبيعي في حالة العمل السري، وإنما في تعدد أشكال المنطق أو نوع الاستقطاب الذي يمارسه كل طرف، ولكن من المرجح أن قناة التمويل كانت واحدة، وهذا ما أثار نوعاً من القلق والتساؤل حول دور مصدر التمويل في التأثير.
لا شك أن هذا السؤال بات ملحّاً أكثر في أعقاب حرب حزيران عام 1967، فعملية استيعاب المقاتلين لحساب العمل الفدائي ارتفعت بوتيرة عالية للغاية، وبدا أن العناية بالتراكم الكمي أكثر أهمية من العناية بالتدريب والإعداد، وأن الإنفاق على الإعلام أكثر أهمية من الفعل المقاوم، وكان واضحاً أن قنوات التمويل الخليجية كانت توالي بناء جدار التمويل الذي يرتفع ويستطيل، وتطغى على مصادر التمويل الأخرى التي دخلت إلى الساح بعد ذلك، ولا أحد يستطيع الزعم بأن السعي إلى وضع اليد على منظمة التحرير من قبل الفصائل كانت الغاية منه السيطرة على مصدر للتمويل يكون بديلاً للمصادر الأخرى، ولكن يمكن القول بأن هذه السيطرة كانت تعني جعل بنية المنظمة جزءاً من بنية الجدار بما يجعل عملية التحكم بواسطة التمويل أكثر فاعلية.
هنا لابد أن يطرح السؤال المنطقي: أما كان هناك شعور أو وعي بالخطر الكامن وراء مشكلة التمويل؟.
خطر التمويل
دعونا نعترف أنه بدخول مصادر تمويل عربية غير تلك المصادر الخليجية على الخط، وبعد أن وضعت الفصائل يدها على منظمة التحرير الفلسطينية، بدا وكأن الخطر الخفي الكامن وراء مشكلة التمويل قد اختفى، فبعد أن كانت علاقة التمويل في البداية شبه احتكارية فإنها تحولت بعد ذلك إلى تنافسية أو هكذا بدت المسألة، ومع ذلك، فإن من أغرب الأشياء في ذلك الحين أن يظهر التحسب من الدور الخليجي من رجال أعمال فلسطينيين يقيمون ويعملون في منطقة الخليج، وكأنهم أحسوا بأن وراء الأكمة ما وراءها.
أذكر أنه في أوائل السبعينيات التقيت باثنين من رجال الأعمال الفلسطينيين في الخليج، وقد شغلا بعد ذلك مواقع هامة في منظمة التحرير، وقد طرحا في ذلك الحين مشكلة الخطر الكامن وراء تمويل المقاومة الفلسطينية، وتساءلا عن حجم الميزانية السنوية اللازمة للتمويل، وأبديا الاستعداد لتأمين التمويل من رجال الأعمال الفلسطينيين بدلاً من الاعتماد على الأنظمة، وما ينطوي عليه ذلك من خطر على المقاومة والقضية، ولكن مثل هذا المنطق ما كان ليجد أذناً صاغية.
ربما بدت المشكلة في ذلك الحين أقل خطورة مما آلت إليه الحالة الآن، ذلك أن قناة أو قنوات التمويل الخليجية خفف من أهميتها ووطأتها لبعض الوقت وجود قنوات أخرى تدعم المقاومة الفلسطينية، وخاصة سورية والعراق وليبيا واليمن الجنوبي والجزائر، عدا عن مصادر دعم أخرى، وهكذا نظر إلى الدعم على أنه يمثّل التضامن العربي والإجماع على مساندة المقاومة، لكن هذا الوضع أخذ يختل– وعلى نحو دراماتيكي– بعد اتفاقيات أوسلو، وقيام سلطة الحكم الذاتي المحدود في الضفة الغربية وقطاع غزة، ففي ضوء تلك الاتفاقيات دخلت أطراف دولية كانت معادية مثل أمريكا والاتحاد الأوروبي إلى جانب دخول الأنظمة الخليجية رسمياً لتكون مصادر للتمويل إلى جانب مصادر التمويل المحلية، وهكذا نشأ جدار للتمويل تتحكم به أطراف أقل ما يمكن أن يقال عن معظمها إنها لا تضمر الخير لشعبنا وقضيته بل الشر، ويهمها تكبيل إرادته، والتحكم بمقدراته، أو تسهيل الأمور أمام العدو الصهيوني للقيام بهذا الدور.
لقد ازدادت حدة هذه المشكلة من زاوية التمويل مع تولي حماس للأمور في قطاع غزة، والتنافس أو الخلاف بين حماس وسلطة رام الله، وانهماك كل من الطرفين في تأمين مصادر تمويله بعد أن زادت الأعباء وتفاقمت، وصارت مصادر التمويل قيداً على الإرادة يزداد تأثيره يوماً بعد يوم، وباتت معظم هذه المصادر تمسك الفلسطينيين من اليد التي تؤلم وهي المال.
لكن هذا لم يكن كل شيء، ولم يكن التطور الأخطر، التطور الأخطر نستطيع أن نلمسه من الواقع القائل بأنه بعد تكبيل الإرادة الفلسطينية ضمن حدود الضفة والقطاع على خلفية اتفاقيات أوسلو، مع خرق العدو عملياً حتى لتلك الاتفاقيات، فإن مصادر مساندة المقاومة الفلسطينية– بغض النظر عن السلطة وميزانيتها وحساباتها– قد تعرّضت للهجوم الامبريالي– الصهيوني– الرجعي واحدة بعد الأخرى.. لقد أخرج اليمن الجنوبي أولاً وكان لهذا انعكاسه على الفصائل التي تعود خلفيتها التنظيمية إلى حركة القوميين العرب، ثم جاء وقت رأينا فيه اليمن كله موضع الاستهداف ولايزال، ثم جرى إخراج العراق باحتلاله عام 2003، وعكس ذلك نتائجه مباشرة ليس فقط على جبهة التحرير العربية التي يساندها العراق، ولكن أيضاً على الجالية الفلسطينية الصغيرة في العراق، ثم استهدفت وحدة السودان، وهو استهداف زاد من مشاكل السودان الاقتصادية، واستهدفت الجزائر بهجمة إرهابية واسعة مفاجئة، قبل أن يبدأ تنفيذ خطة “الشرق الأوسط الجديد” بما فيه من استهداف لليبيا، وكانت أحد مصادر الدعم المالي الأساسية لجميع فصائل المقاومة الفلسطينية، ثم استهداف سورية، وهي أيضاً من مصادر هذا الدعم، وبوسعنا أن نضيف استهداف إيران كداعم للمقاومة الفلسطينية واللبنانية إلى المشهد، لنعرف أن عملية هدم منهجية لجدار تمويل فلسطين ومقاومتها يجري تنفيذها عملياً على أرض الصراع، وأن هذه العملية قد استغرقت زمناً ليس بالقليل.
لعبة المال
ومع تولي ترامب للرئاسة الأمريكية، باتت لعبة المال هي العنصر الأهم في التفكير، أو بالأحرى في الممارسة السياسية للرئيس الأمريكي، وهنا، فإن الرجل ينظر إلى الأمور إما بعقلية الصفقة، أو بعقلية الضربة القاتلة من خلال المضاربة بالمال، إما أن يشفع أو أن يمنع، إنه معنيّ ليس فقط بوقف مصادر دعم المقاومة الفلسطينية، ولكن أيضاً بتجفيف مصادر هذا الدعم كلياً إن استطاع، والمسألة بالنسبة له سيان: أن يستهدف تقويض دعم المقاومة، أو أن يستهدف تقويض دعم السلطة، أو أن يستهدف تقويض مصادر عيش الشعب الفلسطيني، وواقعياً، فإنه بعد ما ألحقته المؤامرة بكل من العراق وليبيا وسورية من الأذى، وبعد الظروف التي أدخل فيها اليمن والسودان، لم تعد هناك حاجة عملياً لأي دور تمارسه أنظمة الخليج الموالية لواشنطن في دعم السلطة الفلسطينية، لأن هذه الأنظمة كانت قد تخلت أصلاً عن دعم من تدعم من المقاومة، إلا الاستثناءات التي لا نجد حاجة للحديث في تفاصيلها المرتبطة في جميع الحالات بالسلطة، وبالانقسام بين سلطة عباس وسلطة حماس، والحقيقة أنه جرت بلورة وضع فقدت فيه الفصائل مصادر تمويلها، أو بات هذا التمويل محصوراً في السلطة أو السلطتين ومصادرهما، وبالتالي صار الانقضاض عليهما انقضاضاً على الفصائل جميعاً دون استثناء!!.
رغم ما يمثّله هذا الأمر من خطورة بالغة، إلا أننا نجد إدارة ترامب تذهب في منحى أقل ما يمكن أن يوصف به أنه يشكّل ضربة للإنسانية، إذ ينطوي على محاولة قتل الشعب الفلسطيني ليس فقط من خلال تقويض جدار التمويل، ولكن أيضاً من خلال اقتلاع أساساته، أو لنقل إنه يشكّل محاولة لشنق الشعب الفلسطيني على جدار التمويل.
استهداف وكالة الغوث
لقد وجد الرئيس الأمريكي أن بوسعه أن يجعل من هدم جدار التمويل المصطنع على خلفية أوسلو أو ما قبلها من خطط للتحكم والتأثير، فرصة للإجهاز على الشعب الفلسطيني من خلال استهداف وكالة الغوث وخدماتها لتكون أول الطاعنين، بينما يمكن لأتباعه من أعراب وأغراب أن يقبضوا أيديهم ويتوقفوا عن دفع التزاماتهم في اللحظة التي يريد، وكانت خدمات الأونروا تغطي جزءاً من العبء الاقتصادي والتربوي والصحي لا يمكن لأي من “السلطتين” تعويضه، وفي الوقت ذاته فإن ترامب الذي يحاول فرض “صفقة القرن” يتحكم بمعظم مصادر التمويل الأخرى بالنسبة لـ “السلطتين”، بحيث يستطيع حجبها في أية لحظة بمجرد الضغط على “زر الحجب”!!.. ويبدو أن المسعى الأمريكي لتقويض الأونروا بلغ حداً لم يكن من الممكن تخيله مع سعي عدد من الشيوخ في الكونغرس لاستصدار قانون يقضي بأن تقتصر خدمات الأونروا على من لجؤوا من فلسطين عام 1948 ومازالوا أحياء حتى الآن، وهم وفق التقديرات الأمريكية في حدود 40 ألف عجوز، أما ما عدا ذلك فيسحب الاعتراف منهم كلاجئين، ويكفي أن نقارن بين هذا المنطق الأمريكي الأعوج والزعم بحق من غادروا فلسطين من اليهود لاجئين قبل ألفي سنة أو أكثر في أن يغتصبوا فلسطين من أهلها ويقيموا لهم وطناً فيها، بل وحق من تهود– وإن كان أصله خزرياً لا صلة له بفلسطين أو بالمنطقة– في أن يحتل فلسطين وأن يقيم لنفسه “وطناً قومياً” فيها!!.
إن سياسة أمريكية تستهدف الفلسطينيين على هذا النحو تنذر بقرارات أخرى في سياق الاستهداف يكون التحكم بالمال والمساعدات هو محورها، وعندئذ، فإن جدار المال الذي كبلت به الإرادة الفلسطينية أو جرت به محاولة تكبيلها منذ البداية، يمكن أن يتحول إلى حبل مشنقة يستهدف الفلسطينيين، فبعد أن كان هذا الحبل يلتف حول الأيدي والأرجل، وغايته أن يعرقل، فإنه سيلتف حول الأعناق، وغايته أن يقتل.
هذا هو في الواقع الخطر الماثل الآن، والذي بدأت خطواته التنفيذية تتجسد على أرض الواقع بالفعل، والسؤال الذي يطرح نفسه في ضوء ذلك: ما هو رد الفعل الفلسطيني المحتمل بمواجهة هذا الخطر؟.
للأسف الشديد، إننا لا نلمس وجود خيارات فلسطينية مفتوحة ومحددة في مواجهة الخطر تتجاوز منطق الاحتجاج باستثناء الرصيد المتوفر للمقاومة، وخاصة في قطاع غزة، والذي يسعى الأعداء للإجهاز عليه وعلى الوجود وليس فقط على الإرادة بوسائل الإجهاز المالي بأشكاله المتعددة، وحتى الأجهزة التي شكّلتها السلطة في إطار اتفاقيات أوسلو، والتي شكّلت قيداً على المقاومة ونموها، هي الآن وفي مواجهة خطر فقدان التمويل تدور مشكلتها حول قدرتها على البقاء وليس حول أداء دور بديل.
إنهما الجدار الذي ربطوا به المسار، وحبل المشنقة الذي كان موجوداً منذ البداية، ولكنه كان مخفياً تحت أساسات الجدار.