ثقافة

موت بعمر قصير.. يحيا بين نبضتين تصخبان بالحياة

حقق ويحقق العرض المسرحي “نبض” صدى طيباً عند المهتمين والمتابعين للحركة المسرحية السورية، من نقاد وكتاب وصحفيين، ولدى الجمهور السوري الوفي لمسرح يحترمه ويحترم ذائقته المسرحية المتعطشة فعلاً لأي عمل مسرحي بالتحديد، يجعل من اجتماعه بالآخرين في ظرف حضاري -مدني راق- كالفرجة المسرحية، في ظل المناخات الجنونية التي نحيا بنبضها اليومي، ضرورة ملحة لا تحتمل التأجيل أو التأويل، وذلك لاختبار السلامة العقلية للطرفين معاً، العرض المسرحي دون غيره من الفنون، كمؤشر لحياة صحية، رغم  الوجع والألم الساهم في الجو بألفة مريبة وكأنه من باقي مكونات العرض، والمتفرج كمتحد متعجرف، يتعملق  كـ”هاملت” إزاء الظروف الرهيبة التي وضعه “شكسبير” فيها، مع فارق بالمشيئة التي صيرت “هاملت” عملاقاً، بعد أن صارت أخيلة الموتى رفيقته وملهمته للخطوات القادمة، أما هذا الجمهور فمن صيره عملاقاً هو دمه ودموعه، إصراره على رد الموت بالحياة، تكذيبه ورفضه لتلك المرارة القاسية، التي تجلس القرفصاء أمامه، كقدر لا فكاك له منه وهناك فرق كبير بالتأكيد، بين الأدوات التي صقلت المشيئتين.

“PLUS” الذي جاء رؤية وإخراجاً وحواراً بتوقيع المخرج المسرحي السوري المحنك مأمون خطيب، وبطولة  كل من الممثلات المحترفات “رنا جمول، وهناء نصور ونسرين فندي”، وبرعاية وزارة الثقافة –  مديرية المسارح والموسيقى– المسرح القومي، تزامن عرضه مع الذكرى الـ 68 للجلاء،  حيث كان اليوم 22- 4 – 2014 ، خامس عروض “نبض” على خشبة مسرح الحمراء بدمشق، والسبب الإرادي لتاريخ العرض الخامس، هو الرغبة الفعلية لدى خلصاء المسرح من جمهوره وفنانيه بقهر الموت بالحياة، عندما لم يأبهوا بالموت الذي تلهى البارحة بالمارة والمقيمين، حيث سقطت قذيفتا هاون، في شارع الحمراء قريباً من مسرح الحمراء “مدرج الغواية”، قبل ساعات قليلة من بدء ساعة العرض، ليتوافدوا بعد مسح دمائهم ودموعهم، إلى صالة العرض يتبادلون بفرح محير، الثرثرات المنعشة، قبل لحظات من بدء العرض.
اشتغل “خطيب” على توليفة ذكية في طرحه الدرامي، المبني على ثيمة ذات حساسية خاصة، تستطيع الولوج للقلب بسهولة ومباشرة، “الأم الفاقدة”، الأم السورية التي طوحت بفلذات مهجتها، حرب كأنها جهنم وقد فُتحت على خوفها الأزلي، خوفها الطبيعي عليهم وهم يلعبون تحت خائنة عيونها، فما بالنا بالأم التي يلهو أولادها بالموت، ما بالنا بحالها وبقدرتها المدهشة على كسر كل الحواجز الطبيعية أو العوائق الخارقة  بينها وبين ذاتها أولاً، وبينها وبين ذكرياتها الغائمة أو المصدومة بواقعها الآن، وذلك عبر نكوص واع إلى حكايات فقدٍ مختلفة، سترويها السيدات الثلاث كل على حده، عبر منولوجات رشيقة وذكية، إن كان بمباشرتها في توصيف الواقع المأساوي الذي تحياه الأم السورية، على اختلاف مستواها العلمي والاجتماعي والطبقي، حيث توحد المصيبة بين الجميع، “واحدة من رسائل نبض العديدة”، فالألم الذي تترك الحروب ندوبه غائرة في الجسد والنفس، يوحد بين الناس، يجمعهم تحت مظلته، يجعل حاجتهم لبعضهم البعض في الاحتضان والمواساة، حاجة إنسانية في المقام الأول، أو بالإشارات العميقة الدلالة التي رسم “خطيب” ميزان سيناتها الحسية والحركية بواقعية شديدة، دون تكلف أو بهرجة، معطياً للتشكيلات البصرية التي ترسمها مفردات العرض السينوغرافيّة، من إضاءة تتقلب فيها ألوان الحزن وخريفه الطويل بتقلب الأيام والأوقات وتعاقبها، مع ثبات راسخ لرمز سوري راسخ أيضاً بوعي كل السوريين، جبل قاسيون بشعلته الحمراء المتقطعة كنبضات القلب، أن يكون لها أثرها العاطفي على الجمهور، متقاطعة مع موسيقى “طاهر مامللي” بعد أن وظّف الأغنية الذائعة الصيت للسيدة فيروز “وحدن بيبقو”، في الموسيقى التي وضعها لـ “نبض” وهنا لا أعرف كيف فات على خبير موسيقي كـ “مامللي”، أن تلك الأغنية ستكون استلابية لوعي الجمهور وعاطفته، ولن تخدم العرض في تكريس مقولته، هذا إن لم تكن قد أضرت به، بمصادرتها لزمن الحدث وتشتيتها لذهن المتفرج، الأمر الذي يحيلني لأتحدث عن الديكور الخارج عن المنطق العام للعرض أيضاً بالانطباع الرومانسي الذي يتركه، فالأحداث المتداورة بين السيدات الثلاث، تدور في حديقة عامة، تغطي أرضيتها أوراق الأشجار الميتة، تنتصب في أرجائها أعمدة إنارة خافتة، مع دفقات متقطعة لغيوم من الدخان المصطنع “حديقة وشتاء وفيروز وإضاءة خافتة” هذه أجواء حكاية رومانسية لقصة عشق فاشلة أو ما شابهها من القصص، لا لسرد عذابات ثلاث أمهات من أجيال مختلفة، يختصرن في أوجاعهن وتفجعن الأم السورية المكلومة، إما بفقد جميع أولادها، أو بفقد وحيدها، أو موت طفلتها ونزوحها إلى العراء.
أداء الفنانات الثلاث، جاء متفاوتاً في تعبيرهن عن جوانياتهن المكتظة بالحزن والذهول والألم، وذلك لأن عرض “نبض” جاء كـ “مونودراما” ثلاثية، لحكاية ترويها ألسنة مختلفة، دون كثير العناية بتفاصيل الحوار، ما جعل التفاعل الحواري  بينهن، بما يولده من أحاسيس مشحونة بالطاقة والحياة، شبه غائب، وبالتالي فات على الجمهور أن يستمتع بأداء فنانتين مخضرمتين، أرجعتهما رغبتهما في لمس مشاعر الناس مباشرة، إلى خشبة المسرح بعد غياب طويل نسبياً عنها،  “جمول ونصور” وممثلة شابة أثبتت حضوراً مميزاً على مساحة الدراما السورية “مسرح، سينما، تلفزيون”، الأمر الذي كان باستطاعة مخرج “الأقوى” تلافيه، باشتغاله على تطوير بنية الحبكة الدرامية بتطويره للحوار وإنضاجه أكثر.
“نبض” من الأعمال المسرحية التي تنهل من اليومي والواقعي، لتقديمه فرجة تعني مشاهد اليوم، تخاطب همومه اليومية التي خلقتها الظروف القاسية لواقع ينبض بالحياة أيضاً، كما ينبض بالموت، موت بعمر قصير يحيا فقط بين نبضتين تتوهجان باستمرار، كشارة البث الحمراء التي تحمل نبض قاسيون، بما له من رمزية تنتصر للوطن أولاً وللوطن دائماً.
تمام علي بركات