ثقافة

“2015 ” مئوية الإبادة الأرمنية صور من مجازر الماضي تعود من جديد

عشرات الكتب تناولت أبشع مجزرة في تاريخ الإنسانية، والتي راح ضحيتها مليونا أرمني على يد الطغاة الأتراك، وكثيرة هي المشاهد الموثقة التي تضمنتها بعض الأفلام العالمية لعمليات الإبادة الجماعية التي تعرض لها الأرمن، وقد جمع الكاتب والصحفي سميرعربش في كتابه “2015” مئوية الإبادة الأرمنية، مجمل الأحداث التاريخية التي شهدت مجازر متعاقبة لهذا الشعب المنكوب والتي مازالت مستمرة حتى الآن بصورالماضي، فألحق الكتاب بملحق بيّن فيه حقد أردوغان على الأرمن وتعاونه مع الإرهابيين في هجومهم على كسب وإلحاق الأذى بمواقع الأرمن وتهجيرهم، وتضمن مقابلة الرئيس بشار الأسد للوفد الأرمني ووقوف سورية التي تحارب الإرهاب إلى جانب الشعب الأرمني، وقد اعتمد الكاتب على عدة أساليب: ففي القسم الأول اتخذ طابع السرد التقليدي والبعد التاريخي اختصر فيه الأحداث التي عصفت بحياتهم منذ العهود الغابرة إلى الآن، بينما في القسم الثاني جنح نحو السرد الروائي في تدوين مشاهدات حيّة لقتل الكبار والصغار وتمزيق أجساد النساء وعمليات الحرق والتدمير، في حين اتصف القسم الثالث بالتحليل والاستنتاج في فشل كل المعاهدات الدولية في إنصاف هذا الشعب، وجاء الكتاب برمته بإطار ما يشبه “الديكو درامي” إذ أورد مجموعة صور حقيقية عن فظاعة الجرائم المرتكبة ومعالم أرمينيا المستقلة، وعن علاقاتها الدبلوماسية مع سورية مجسدة بزيارة الرئيس بشار الأسد إلى “يريفان”.
قدم للكتاب د.نبيل طعمة وصدر عن دار الشرق.
تاريخ مثقل بالويلات والمجازر
بدأ الكاتب في فصل “أرمينيا من عمق التاريخ” برواية الخوريني التي تقول: إن الشعب الأرمني ينحدر من سلالة يافت بن نوح، واستعرض الصراع الدائر بين هايبك وبيل ملك البابليين، ثم توصل إلى من استنتج بأن رواية الخوريني ليست إلا من قبيل الأسطورة وأن المجموعات القبلية التي استوطنت آسيا الصغرى منذ الألف الرابع قبل الميلاد تحولت إلى كيان اجتماعي سياسي، شكّل أول مملكة في تاريخ الشعب الأرمني وكان ذلك في القرن التاسع قبل الميلاد، ثم تطرق الكاتب إلى الصراع بين الإمبراطورية الآشورية والبابليين لتخضع أرمينيا إلى سيطرة الميديين وقد نعمت بعهود من الاستقرار خلال حكم ملوك فارس لينتهي حكم الأسرة الأرداشيستية ويبدأ حكم الملوك الأجانب لأرمينيا، وتعاقب عليه ملوك من جنسيات مختلفة، ميدي وبروثي وجيورجي تجددت خلالها الحروب بين روما والبارثين وانتهت بالاعتراف بالسيادة القومية للأرمن وتولى درطاد الأول عرش أرمينيا ليؤسس المملكة الأرمينية الثالثة تحت اسم الأسرة الأشاغونية، وفي أواخر القرن السابع للميلاد تمكن العرب من فتح أرمينيا في عهد الخليفة عمر بن الخطاب واستمر حكمهم قرنين ونصف إلى عهد الدولة العباسية، واتسم بالعدل والتسامح وانتهى بمعاهدة صلح ليبدأ عهد الأسرة البقرادونية عام 885 ميلادي إلى أن احتلت من قبل البيزنطة، وفي أواخر القرن الرابع عشر في عام 1378خضعت أرمينيا لحكم قبائل التركمان ومن ثم دخلت تحت سيطرة السلطان العثماني محمد الفاتح لتبدأ مأساة الأرمنيين عبر مجازر متعاقبة، فتوالت الويلات عليهم عبر الحرب الفارسية –التركية والفارسية –الروسية ثم التركية –الروسية، وتوزع الأرمن إلى قسمين في أرمينيا الروسية وأرمينيا الغربية الواقعة تحت سيطرة الاحتلال العثماني وتعرضوا لكل أنواع المضايقات.
في الفصل الثاني من الكتاب بعنوان “السلطان الأحمر” تناول الكاتب الحقبة التاريخية الوحشية التي مرّ بها الأرمن في عهد السلطان الأحمر الذي اتصف بكرهه الشديد للعرب والأرمن وارتباطه باليهود واستبداده بالحكم، وفي عام 1903 عمل على تشكيل وحدات مسلحة من المجرمين وقطاع الطرق أسماها بقابضي الأرواح ووجهها إلى المناطق الأرمنية لارتكاب عمليات التنكيل والقتل، وفي عام 1904 توجهت كتائب الجيش العثماني لاجتياح مدن الأرمن وقامت بمجازر لم يشهد التاريخ بقسوتها وفظاعتها معبّرين عن حقدهم الدفين للشعب الأرمني، حتى أصاب الخراب الكامل 2500 مدينة وقرية وارتفع عدد الضحايا إلى عشرين ألف أرمني ورغم عزل السلطان الأحمر وصل عدد الضحايا إلى ثلاثين ألفاً وبقتل أشد قسوة ووحشية، وتابع الكاتب هذا الفصل بآخر عنوانه “الاتحاديون والمجزرة الكبرى فظاعة ووحشية” تناول فيه عذاب الشعب الأرمني خلال الحرب العالمية الأولى، إذ جُند أربعون ألفاً  للخدمة في الجيش التركي إلا أن السلطات أمرت بمصادرة أسلحتهم وتشغيلهم في أعمال السخرة واستخدامهم كحيوانات جرّ، وفي عام1915 اتخذت اللجنة المركزية لجمعية الاتحاد والترقي قراراً يقضي بإفناء الأرمن بعملية تطهير شاملة، وفي عام 1923 استلم الحكم أتاتورك وبدأ عهد الجمهورية التركية وقام بمجازر جديدة لقتل وتهجير الأرمن ولم يعترف باتفاقية لوزان الدولية ووصلت حصيلة المجازر إلى مليوني أرمني وتدمير 2500 قرية.

شهادات مغرقة بالوجع الإنساني
في هذا الفصل “شهادات حيّة” تغيّرأسلوب الكاتب وأصبح أقرب إلى السرد الروائي والمتن الحكائي بالتماهي مابين ضمير المتكلم والغائب والوصف المفجع لعمليات الإبادة والمفردات الموحية، فأفرد الكاتب مساحة لشهادات موثقة من قبل دبلوماسيين ومسؤولين اتخذ بعضها سمة الرسائل وبعضها الآخركان أشبه بمدونات مذكراتهم  كما في شهادة وردت في مذكرات نعيم بك سكرتير المدير العام المساعد لشؤون المنفيين “لقد شاهدت قافلة من النساء والأطفال يموتون جوعاً وبرداً،أما المشهد الفظيع فهو حين كانت الكلاب والحيوانات الضارية والطيور الكاسرة تنهش جثثهم” ، وكتب مولان زادة رفعت في كتابه (الوجه الخفي للانقلاب التركي): “أطفال أبرياء كانوا نائمين في أحضان أمهاتهم وابتسامة ملائكية ترتسم على وجوههم وفجأة وبضربة فأس تسيل دماؤهم وسط ضحكات الجزارين الهستيرية فهل يمكن وصف وحشية مجنونة كهذه” لكن مجازرهم المفجعة تفاقمت حينما قام الأطباء الأتراك بدس السمّ في الشراب الدوائي وأرغموا الأطفال والنساء والمسنين على تناوله.

صور من الماضي تتجدد
في الفصول التالية اتخذ الكاتب البعد التحليلي والاستنتاجي والاستنكاري لاسيما في فصل “أين القانون الدولي من القضية الأرمنية” وفي فصل المحكمة الدائمة للشعوب، مستعرضاً كل القوانين والمعاهدات التي تمت ولم تنصف الشعب الأرمني الذي تعرض للإبادة من قبل الأتراك ومحمِّلاً أبشع جريمة في التاريخ إلى حكومة “تركيا الفتاة” التي ارتكبت في عام 1915، وفي فصل “الأرمن والعرب علاقات موغلة في القدم” عاد فيه إلى السرد التاريخي، مبيّناً العلاقات الإنسانية والدولية الحسنة التي ربطت بين العرب والأرمن منذ العهود القديمة إلى التاريخ المعاصر، على صعيد العلاقات العسكرية والدولية التي ربطت بين الأرمن والمصريين حيث شاركوا في عوامل نهضة مصر في ظل الدولة الأيوبية والمماليك والعثمانيين، أما فيما يتعلق بالعلاقات بين سورية ولبنان وفلسطين والأردن والعراق، فالعلاقات كانت جيدة بسبب وجود نهري الفرات ودجلة اللذين ربطا بين أرمينيا والبلدان الواقعة في جنوبها، إضافة إلى طرق الشرق القديمة، وعلى صعيد العلاقات الثقافية فتوجد قضايا مشتركة بينهما في مجالي التاريخ والأدب، ولاينكر أحد اهتمام الأرمن بالثقافة العربية فزادت حركة الترجمة، كما تميزت العلاقات الاقتصادية بينهما لموقع أرمينيا الجغرافي وكونها صلة وصل بين العرب ومناطق القفقاس وشرق المتوسط وغربه والخليج العربي، وفي العصر الحديث نمت العلاقات الدبلوماسية بين العرب والأرمن وتمّ تبادل الزيارات بين الطرفين، وتعدّ زيارة السيد الرئيس بشار الأسد إلى بريفان في حزيران عام 2009 أكبردليل على ذلك، وأثمرت عن عدة اتفاقات تعاون. ومن أسطورة طائرالفينيق الذي ينبعث من رماده مجدداً استلهم الكاتب فصلاً وجدانياً عنونه بـ “الأرمن..كما أسطورة طائر الفينيق” تناول فيه نضال الأرمن وتمسكهم بالحياة وإرادتهم الصلبة التي جعلتهم ينهضون من رماد محارقهم بعدما خسروا مليوني شهيد جراء إبادة العثمانيين لهم، ليطالبوا بدولتهم المستقلة، وبعد مراحل متعاقبة تبنى المجلس الأعلى في 23 من آب 1990 بيان استقلال أرمينيا، وحالياً تنعم بقيادة رئيسها سيرج سركيسيان وتمضي بطريق التطور والتقدم. وفي نهاية الكتاب أفرد الكاتب فصلاً توثيقياً وإخبارياً عن معالم أرمينيا التاريخية والفنية والجغرافية بعنوان “أرمينيا معلومات عامة” ونظراً للأوضاع السياسية المستجدة ألحق الكاتب الكتاب التوثيقي بملحق “وريث الدمويين ..كسب أنموذجاً” وفيه متابعة لجرائم الأتراك الذين لم يكتفوا بكل الجرائم التي ارتكبوها بحق الأرمن، إذ اشتركوا بالهجمة الإرهابية على سورية، وأوعزوا للإرهابييين باقتحام معالم كسب من خلال المعابر غير الشرعية والانقضاض على قرى الأرمن، وبرهن أردوغان على حقده بإحراق الكنيسة الأرمنية في كسب وتحطيم صلبانها وأيقوناتها، وإزاء الجرائم المرتكبة قام وفد برلماني أرمني بزيارة تضامنية إلى سورية، أكد من خلالها تضامن الشعب الأرمني مع الشعب السوري في محنته، وأعرب الرئيس بشار الأسد عن تقديره لمواقف الرئيس سركسيان، كما تضمن الملحق استنكارالشخصيات الأرمنية اقتحام كسب وإلحاق الأذى بالأرمن من جديد. ولعل هذا الملحق  دليل جديد على العنف الذي يمارسه الإرهابيون في سورية على مساحتها الجغرافية كلها، وسيبقى الكتاب وثيقة تاريخية  تلخص تاريخ هذا الشعب المنكوب، وفي الوقت ذاته يؤكد بأن الظلم لايدوم وبأن الحق سيعود إلى أصحابه.
مِلده شويكاني