ثقافة

“صهيل وطن”.. وسقوط لعبة الأقنعة الأيديولوجية

من أين يأتي الصهيل الذي يكتنف السرد في رواية كرواية “ صهيل وطن “ للأديبة “بلسم محمد”؟ حين يكون الصهيل، أيّ صهيل، غامضاً، فإنَّ ذلك يدفعنا، وبكل ما أوتينا من رغبة، إلى اعتماد سُبلٍ مختلفة، واستنطاقها لكشف ستره وتبيان حقيقته. لكن “صهيل وطن” يجعل الكلّ ناطقاً، ولأنه يكشف عن كل شيء، أين دهشة الوعي الجمالي الجديد الذي تسعى الرواية الجديدة إلى تأسيس ذائقته الجديدة؟ لا يخامر الإنسان أدنى شك أن المكان ذاكرة الإنسان والأدب جزء من الإنسان استفرغ فيه منذ الأزل قضاياه، وهمومه، وآلامه، وآماله، والأديبة “بلسم محمد” قاصّة سوريّة، جرفتها غربة الذات وشهوة السرد، فركبت متنها غير عابئة بجغرافية الأفق، وجابت فضاءً سديمياً أشبه بسيرة ذاتية روائية أو رواية ذات ملامح أطوبيوغرافية لوجود ضمير المتكلم، وصيغة الحاضر، واسترجاع الماضي، وتصوير جغرافية الخوف، واعتماد تقنية التذكّر، وتطابق الذات الكاتبة مع الذات المتحدث عنها (الشخصية المحورية). من هذا المنطلق نسعى إلى ربط مسار فعل القراءة بأسئلة قد تكون من السهل الممتنع، تروم فتح احتمالات الممكــن من الدلالات الروائية، وما يرتبط بها من مضاعفات الأثر الجمالي. كيف يجري تصريف لعبة التسريد؟ وما هي الظـــلال المرجعية التي ترتسم على صفحة المتخيل عند ما تجد نفسك محاطاً بجليد الخوف؟ “أخافني كلام الطبيب، تعالتْ دقاتُ قلبي، وانتابني خليط من المشاعر الدافقة دفعة واحدة، أخذتُ أتصببُ عرقاً وأنا أرقبُ شفتيه تتحدثان.. شعرتُ بالخجل.. رفضتُ أن أكشف عما يعتريني في أعماقي، أو أن أفصح عن قلقي وحجم الذعر الذي انتابني،…”ص11.
ثمّة لغة تتقن فن الصهيل، فبين صهيلٍ يورّث الموت، وصهيلٍ يورّث الحياة، امرأة تقطّرُ حزناً وتتشبّع خوفاً، لتحظى بما تريد بأكثر من لغة، وتلجأ فيما بعد إلى صهيلٍ هي صانعته، صهيل حنون، نسجته بخيوط الجمال والروعة وشبّعته برائحة الياسمين الدمشقي والتراب السوري: “إنّها سمةُ الطيار السوري.. هو من أمهر طياري العالم “ ص- 23 ولكن، حين يتداخل الصوت بالصدى ويكون لكل منهما امتداداً ومدى، تتبصر الألم كمارد يشقُّ عباباً أسود تاركاً خلفه عاصفة من دخان، يسبح في الآفاق محركاً سواكن الذاكرة، ويرصد أرقاماً للشوارد التي تسبح في خاطر وإرهاص المؤلفة.. لماذا انتابها الخوف من كلمة البدء رغم تصريحها المعلن من الصفحة الأولى أنها لم تكن تعرف ما كان وما يجب أن يكون..؟ صهيلٌ واحدٌ ينسلُّ من جدران القلب، ونشيج الحبر ما بين زحمة السفر وبين الصراع في خضم الجنين الأول والعَوْد على البدء في ليلها المشغول بريح الشمال والأحلام القصوى، ومصير أي امرأة وحيدة في ركام الثلج الكثيف. قد يتفق المرء دونما أية صعوبة مع هيدجر: “بأن الإنصات للنص كتجَلٍّ للكائن لا يعني أن نفهم ما يقوله النص ولكن ما لا يقوله» (1). علينا أن ننصت قليلاً قبل أن نكمل حديث السيرة على سرير الدهشة والملكوت كي نفتح المجال للأشياء الصغيرة أن تصبح عوالم، تضيء ما لا يُضَاء، تكتمل بالكتابة والكلمة والشعور بالخجل والخوف، ولكنها ترفض أن تفصح عن حجم الذعر ثم تقترح له أجمل أثوابه قبل أن ترتب له دقات القلب قبيل الطيران به دون أن تحني رأسها لهيبة التاريخ، بل أسندته على كتف الحلم. “سنبدأ كتابة التاريخ: تاريخنا القادم فوق صفحة جديدة لنا وحدنا،على أرض آمنة لا تعرف الخوف ولا القلق”.. ص-38..”على ضريح الجندي المجهول وضع العروسان باقة ورد كانت تحملها العروس” –ص 77  كانت تراقبُ بعلامة استفهام ملحّة، لكنها آثرت أن تمنحنا بعض أسئلتها، لماذا لم تحاول الكاتبة أن تلج المحظور، وتصدع قانون السيرة وتحرره من مزاجية الحجّاب والحرّاس لأنّه الفعل الإيجابي الذي تقوم به الرواية..؟ “هل فكرت أن أملاكها ستغدو ملكية عامة، وأن قصرها سيكون متحفاً تدوسه كل الأقدام؟”ص- 80 ليت الأديبة أسست السرد على لعبة المرايا لاستكشاف المسافة مابين الماء والماء، في لعبة جدِّية من لعب الخيال، كي نقتحم معها منطقةً محرّمةً من النسيج الروسي، وكي نتمكن من التواصل في كافة الاتجاهات يجب علينا أن ندرك أن في الأدب مساحة للخطأ، مفتوحة لكل الاحتمالات ومشرعة لكل أنواع الاضطرابات. وهذا ما أومضت به كلماتها: “لم أفهم، ماذا تعني بمدينة مغلقة؟ ص- 97 “إنّكم تخونون وطني.. كيف يتساوى هذا بذاك؟ نحن نقدم نفس المقعد، ونمنح العلوم ذاتها في المقابل، وما تبقى فهو مسؤولية صاحب المقعد. والويسكي؟ وهدايا السوق الحرة؟ إنها ثغرات في الطرفين، فمن يخون من؟!” ص-172 وضمن دائرة المساحة المضطربة لم يكتف “أمير” /الزوج المثالي/ بممارسة التنظير، بل ظهر كالسارد المهيمن على العالم بدواخل الشخوص بوصفه المتحدث الأوحد كمعادل موضوعي لصوت الآخر الذي يفترض صيغة ضمير المتكلم الذي ساهم مع “رؤى” في توجيه دفة السرد في مركب الرواية. وعليه، كان من الأجدى أن يخترق ستار الثقافة المخملي كي تُبْحرَ بنا “رؤى” في رحلةٍ لا عبْرَ الذات وإنّما برفقتها ومَعِيّتها، رحلة لا تَقْنَعُ فيها بالمشاهدة والتأمُّل، ربّما يتمكن من الإبحار معها مَنْ رأى ما أشار إليه موريس بلانشو إلى أن: «تبعثر الأدب أمر ضروري، والتشتيت الذي هو بصدده يعبر عن المرحلة التي يقترب الأدب فيها من نفسه». أنّى للرواية أن تهرب من سلطان الأيديولوجيا؟ لم تتمكن من الهروب وغير مرتاحة لذلك توجه السؤال لغيرها: “تريد أن تقول لي إنك مرتاح لهذا القانون؟”ص-46 هل تحولت هذه الأيديولوجيا في زمن تهاوي الأيديولوجيات إلى لعنة يريد كل كاتب أن يتطهر منها حتى يخرج منجزه خالياً من سطوتها؟. قد تكون صور التدجين ورفاهية التميز الكاذبة وإشكالية الممارسات دفعت أمير /الزوج للتصريح أو التنبيه: “إنه قانون الحياة، فمع هذا الكم الهائل من السوس الذي ينخر في الخشب، لابد أن تسقط الشجرة مهما كانت عملاقة” ص-207
لا شك أن أي مبدع ينطلق من أثر ما أو فكرة ما ولهذا ظهرت الكاتبة منسجمة مع ذاتها في نظرتها إلى الاتحاد السوفييتي وتقول: “هؤلاء العجائز هن حماة الاشتراكية بصرامة” ص-136” من يريد أن يعرف الاشتراكية على حقيقتها فليزر الاتحاد السوفييتي، ومن يرغب في اكتشاف مساوئ الرأسمالية عليه أن يذهب لأمريكا” ص- 208 والأدب هو صنع الذات والآخرين وفي صميم هذا الوعي كتبت “بلسم محمد “ سيرتها بتحدٍ كبير لها وللآخرين، والحبر يحمل في صهيله شهوة الزيارة لأشياء كثيرة، قد يكون الملتقى والأهل والوطن لتعب طال مسحه بيد متعبة، أو لحظة زمنية لخلوة يفضفض الإنسان عن روحه الهرمة ويحطم سلال الشجن الجارفة. لذلك نرى الأديبة قد امتدّت على مسافة الرؤية، رقصتْ حافيةً فوق ذاكرة حريرية، وأعلنت عن انكسارات مؤلمة، وعذبة، بدت كأحصنة القياصرة المتلونة تسابق الريح إلى نهاية الخوف، ولكن لم تستطع أن تنشرها في وجه الشمس ذات نهار فتكوّرت حول نفسها قدر استطاعتها، فأولجت بحملها وآمالها وأفكارها في ليل “موسكو” القارس البرودة واسماً ذاكرتها بلسعته التي رافقتها طيلة مدة اغترابها في الاتحاد السوفييتي. ربّما توكأت “رؤى “/بلسم على عصا أرسطو في تطهير النفس من شهواتها أم هي حقيقة العابرين في زمن الأمكنة الثابتة، تخفي عن العيون كل الأسرار الموسومة بالفرح والحزن معاً لاعتمادها بما يسمى “الكي البارد”..؟” إنَّ ذلك ممكن مجازياً، فالثلج يحرق كما النار، ألم تسمعي بما يسمى “الكي البارد” ، هنا تعرفين الاحتراق بالثلج، ووهج الحياة تحت رماد الظلّ. ص-34 “بلسم” في غربتها هذه خبزت خبزها الأول على دخان الحريق وبرودة الثلج، للعبور إلى رحابٍ بلا حدود مع موسيقا “زوربا” وقطعان أيائلها الجميلة تحت رماد الظلّ، وبعينين حالمتين تسرد حكاياتها الإنسانية عبر مساحات الصخب والصمت وملاحقة وهج الحلم المنكسر في أشرعة العادات والتقاليد المختلفة وضباب الغربة والرهبة. وبلحظة صراع مع اختلاف المفاهيم تقول: “كم سرَّني أن أملأ فراغ أخته على المقعد، وربما أمه أيضاً، وفي فوضى مشاعري هاجمني السؤال: من يعوِّض أمه عن حرمانها مشاركته فرحة تنتظرها منذ ميلاده؟ يا إلهي كم نقسو على قلوب الأمهات..!” ص-76
مع توالي الأيام لعبة عملية إيقاظ الأحلام التي لجأت إليها الكاتبة واعتمادها تقنية جوهرية لبناء روايتها لم تعد ممكنة أو مسعفة، بمعنى أن الكاتبة كانت تتعامل فقط مع أطلال راحلة، لأن الأحلام التي حاولت إيقاظها أصبحت مشوهة وتحولت روائياً إلى طموحات شخصية بسيطة مهنية مستندة على تصورات وآمال متواضعة، لأن شخصيات الرواية كانت تعيش موتها الأيديولوجي والنفسي ويا للمفارقة، تعتقد أنها وبصيغة هادئة بحتة تستطيع أن تطرد أو تكلس الموت بالكتابة، بينما الأصل هو أن الكتابة ترسل إلى الموت، وهو ما يتحقق في الرواية التي نحن بصددها. والفكرة/الحقيقة الأهم التي دارت حولها أن الأغطية العقائدية، سواء أكانت اشتراكية شيوعية أم ليبرالية، تبقى في الغالب مجرد أقنعة، وإن تطلعات الدول الكبرى في تزعم العالم،  الذي كان ومازال يحتاج إلى أكباش فداء، لأن الكبار يحتاجون لكي يبقوا كباراً إلى مجالات حيوية، اندلعت من أجلها الحروب وسالت بسببها أنهاراً من الدماء. وهكذا استطاعت “بلسم محمد” القبض على الزمن والانفلات من وطأته والاستسلام لأبديته وسرمديته، وأن تقدم لنا في صهيلها أصواتاً مدهشة، حضنتها ذاكرتها، وابتكرها وجدانها، مما يجعل قراءتها أشبه برحلة ممتعة في عوالم روسية بالشكل وعربية بالجوهر، وكأنها تؤرخ لروح إنسان سوري أصيل في صراعه من أجل البقاء مع طبيعة قاسية وغرباء من أبناء وطنها وخارجه ينهبون ما يتساقط من عرق السنابل، ويبقى ضمير الغائب الحاضر الشاهد الأخير على اغتيال “صهيل وطن” كي يبدو كصهيل نفسي، وتفريغ ذاتي لأحلام مستحيلة دخلت عدة مرات الموت السريري وظلت ذكراها تثقل كاهل الجميع وتقض مضجعهم، إن توثيقها هو تقريب لها وتصالح معها أملاً برؤى فكرية عربية شمولية صالحة لمجد قادم بعد أن سقطت أقنعة الأيدولوجيا على عتبة “صهيل وطن”.

هوامش: 1 * مصطفى الضبع. إستراتيجية المكان، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، أكتوبر 1998م، ص151. *2 _ رواية «صهيل وطن» للأديبة بلسم محمد 2011م – طرطوس – دار أرواد-
أحلام غانم