ثقافة

أشعار نيتشه قيس محمد حسين

نيتشه فيلسوف الانقلابات، فهو الذي تميـّز بقدرته على قلب المفاهيم والقيم، وهو الذي أعطى أولويـّة للجسد (كلُّ شيءٍ يمرُّ عبر الجسد، وكلُّ فكرةٍ تنبثقُ منهُ) هو نفسه من عاش معاناة الجسد وعذاباته العديدة، مرضٌ في العيون رافقه مرض الدوسنتريا الذي جعله يتخيـّل الموت قريباً، فكتب إلى أخته (أعتقدُ أنـّي أدّيتُ مهمـّتي في الحياة، كما يؤدّيها رجلٌ لم يـُمنح ما يكفيه من الوقت) وهنا نلمس أنّ الحياة تحمـّلُ المرءَ مهمـّةً، إذاً هناك شيءٌ آخر خارج نطاقها يتعلـق بالرّوح، لدى نيتشه كلُّ شيءٍ يريدُ أن يتحوّلَ إلى كلمات، لتكون اللغة هي مولـّدة الوجود، تلك اللغة التي رفض البعض تحجيمها بـ (الحامل للأفكار والمشاعر) فأسموها (اللامحدود) على ما في هذه التـّسمية من خواء وإبهام، إذ كيف نعرّف اللـّغة بطريقةٍ تشعر الآخرين بعجزنا عن تطويعها، نزار قباني رأى أنّ اللغة همزة وصل وليست همزة قطع، محمود درويش قال: (إذا لم تـُشربْ كلماتك شرباً، فقل: أنا وحدي خاطئ).
نيتشه أُصيبَ أيضاً باليوفيريا ذلك المرض الذي يسبـّبُ ابتهاجاً بلا سبب، وفي عام 1889 أصيبَ بالجنون، هذه المعاناة التي عاشها نيتشه، كانت عنصراً مؤثـّراً فيما أنتجه من فلسفة وشعر، فالإبداع وليد معاناة وليس ترفاً، حتـّى الشعراء الذين تغنـّوا باللـّذة والترف، إنـّما كان لهم نصيبهم من التحرّق، وقد أشار أحدهم إلى السـّيـّاب ذات مرّة فقال: إنّ من يقرأ شعره يعتقد أنـّه زير نساء، بينما كان يعاني الحرمان والكبت، تميـّز شعر نيتشه في مراحله الأولى بميله للبلاغة والغموض، والحزن والعبارات التي توحي بالنـّهاية (الغروب، الخريف، الأشباح…) أمـّا شعره في المراحل المتقدّمة فقد تميـّز بالعمق والبعد الدّرامي والسـّخريـّة القاسية، وفي المراحل الأخيرة نجد التـّكثيف والعمق واللـّغة الواضحة المحمـّلة بمستويات دلالة وبصور متوهـّجة غير معقـّدة، كما تميـّز شعر هذه المرحلة بالتـّنامي بين الفلسفة التي تعتبر أمّ العلوم، والتي تعتمد الفكر والمنطق والتحليل والاستدلال والاستقراء، وبين الشـّعر الذي يعتمد الصـّورة والتخييل – والذي هو ضرب من ضروب التفكير حسب ابن جني- والإيجاز، توزّعت إبداعات نيتشه، وإن كان أفلاطون – والذي يـُقال إنـّه حاول كتابة الشـّعر فلم يفلح- أبعد الشـّعراء عن نعمة مدينته الفاضلة ما لم يكونوا من مـُمجـّدي السلطة والقوّة، فنيتشه كتب الشـّعر ووضع بصمته المميـّزة إلى جانب كونه فيلسوفاً، بينما المعري كتب شعراً ذا أبعاد فلسفية إضافة لمنتوجه الآخر، يقول نيتشه (بعيداً \عن بيت الأب \ قادني ضوء النـّهار \ بعيداً.. بعيداً.. \ خلفي الأغاني القديمة ترنّ \ السـّعادة القديمة ماتت) حنينٌ إلى الماضي إذاً رغم آلام ذلك الماضي، يحمـُّل نيتشه لغته الشـّعرية أبعاداً تتعلـّقُ بكينونة الحضارة ومعايير الأخلاق، وله رؤاه فيما يخص علاقات المجتمع، فهو يبدو عنصريـّاً في بحثه عن السوبرمان، وفي بعض مقولاته مثل (ليس للأشرار أغنيات، من أين جاء القول إذاً – للرّوس أغنيات) هو يميل إلى إثبات النقيض في مختلف المجالات، فمثلاً يرد على غوستاف فلوبير الذي يقول (لا نستطيع التفكير والكتابة إلا جلوساً) فيرد نيتشه (وحدها الأفكار التي تأتيك وأنت تمشي لها قيمة) فنيتشه يرى أن الحياة بلا موسيقى هفوة، أما المرأة والرّجل فليس لسوء التـفاهم بينهما حدّ (ذات الشـّهوات بين الرّجل والمرأة ليس لها نفس الإيقاع لذا فليس لسوء التـفاهم بينهما حدّ).
تأتي كتاباته الشعرية في أنماط منها أقرب للمقولات مثلاً (إنّ ما أبحث عنه هو عقل العقل) وقد رأينا بحث الشعراء والفلاسفة عن معنى المعنى، وعقل العقل، ما بعد الحداثة وما شابه. وكقوله (البرهان المزاجي هو إرادة أن تكون غبيـّاً) وهذا يشير إلى تحكم جهات معينة بتوجهات المجتمع من خلال تسويق رؤاها بشكل مزاجي وغيبي، يرى نيتشه أن المرأة أكثر وحشيـّةً من الرّجل في الحبّ كما في الثأر، ويرى أن قراءة الناس له ستكون بعد وفاته (الذين سيولدون بعد وفاتهم – أنا مثلاً) وهذا ما حدث حقـّاً. يبدو نيتشه حانقاً على ألمانيا متعصـّباً لها في آن يقول (يا شعب أفضل المنافقين – يقيناً – لك أبقى وفيـاً) نقف في كثير من الترجمات على عبارات على طريقة اللغة الأم دون الحاجة لذلك مثلاً (لم على التـوقف تجبرني) أتساءل: لِمَ لم تكتب (لم تجبرني على التـّوقف) علماً أن الجار والمجرور متعلقان بالفعل تجبرني؟ وتتكرّر هذه الحالات كثيراً، عانى نيتشه من إشكالية (الكاتب – القارئ) يقول (من يقرأ ما أكتب؟) وفعلاً كان اكتشاف أهميـّة ما خلفه نيتشه بعد وفاته. الحضارت الكبرى قامت على الفلسفة والشعر فمتى يعود مجتمعنا إلى ابن رشد وابن سينا وأبي العلاء، ويحد من توجهاته الغيبية والنمطية، متى نفهم أهمية الفكرة؟

يحملون الأكياس البلاستيكية بدل  الحقائب على ظهورهم الغضة.. ويمدون لقسوة الدنيا.. لسانهم “ليجاكروها”..مشهد صباحي يكسر القلب، أرخى ألمه المتدفق كنبع كسير الخاطر، بظلال غائمة الوجع فوق أرواح كل من عاينه ورآه، أطفال تطير بهم الخطا نحو مدارسهم، إلا أن ظهورهم النبيلة رفعت فوق أكتافهم الغضة أكياساً بلاستيكية عوضاً عن الحقائب المدرسية التي كانوا يحملونها عادة.
جميعنا يعرف العلاقة العاطفية التي تنشأ بين الطفل وأدواته المدرسية، إنها عوالمه الرحبة ومقتنياته الأثمن والأغلى، لذا تراه دائم الانشغال بها والحديث عنها: هذا قلمي الرصاص القوي، وتلك ممحاتي المعطرة، أما هذا فدفتري وصديقي، وعندما يأتي على ذكر الحقيبة يقول والحزن يلف وجهه النوراني: “أهلي ما معهم مصاري والشناتي كتير غالية.. بس بابا رح يجبلي احلى شنتة السنة الجاية”.مهما بلغ تعاطفنا مع أولئك الملائكة وأسفنا لما صار حال زنابق الصباح عليه، فإننا نبقى سائحي تعاطف لا أكثر، أما الأهل الذين اعتادوا أن يفعلوا كل ما بوسعهم ليزينوا صباحاتهم الفقيرة برؤية أطفالهم وهم يعبرون إلى مسالك الحياة بكامل عافيتهم، فهم الأكثر حزناً والأشد ألماً لأنهم عجزوا  في هذا العام الكئيب عن تأمين ما يفرح أطفالهم، ما يجعلهم يرسمون الضحكة والأمل فوق شفاههم وفوق وجوهنا بعد كل ذلك الوجع الذي نحياه.
من المفترض والطبيعي أن تكون هذه المشكلة الإنسانية والأخلاقية همنا كسوريين جميعاً، لذا كان من الواجب على وزارة التربية ألاّ تدع الموضوع بتصرف المحسنين والجمعيات الخيرية، لأنها أي تلك النشاطات الخيرية، يبقى عملها غير كاف وجهدها لا يصل بأفضل أحواله إلا لفئة قليلة من الناس، لذا كان من واجب الحكومة أن تكون مساعدة هؤلاء الطلاب وذويهم على رأس أولوياتها.
سنين طويلة ونحن نحارب الأمية و تسرب الأطفال من المدارس، لا يجوز أن نقف اليوم مكتوفي الأيدي، حيال هذا المشهد المفزع الذي يعيدنا لأيام كئيبة لا نريد لها أن تعود، هؤلاء الأطفال وأحزانهم الموضوعة فوق أكتافهم كصخرة سيزيف، هم مسؤولية وزارة التربية والحكومة، قبل وبعد كل شيء، حتى ولو اضطرت حكومتنا العتيدة أن تتنازل عن رواتبها وجزء من رواتب الموظفين “السوبر ديلوكس” لأجلهم، وحتى لو أصدرت مرسوماً يعفي كل المتطلبات المدرسية من جحيم التجار وزبانيتهم ، هؤلاء الأطفال هم غدنا، هم فرحتنا السورية الباقية، هم من ستورق ضحكاتهم أياماً أجمل، دعونا لا نكن شركاء في تعاستهم، دعونا لا نلقي بغضاضتهم لمجهول الأيام القادمة.
ملاحظة :رغم الغصة التي علقت ببالي وببال كل من رأى طفلاً يحمل كيساً كحقيبة عوضها، فإنني أشعر بالفخر بهؤلاء الأطفال والطلاب السوريين الأصيلين، إذ لا شيء مهما كان قاسياً سيقف في وجه عزيمتهم ليفوزوا بحياة أفضل، أرواحهم الغضة بصلابتها تجعلنا أكثر إصراراً على المضي قدماً للعمل للحياة للفرح.
الطفل “يوسف سعيد العلي” طالب صف أول. لم تكن مهمة إقناعه بالتوقف للحديث قليلاً باليسيرة أبداً، عيناه تعدان بلاطات الرصيف وتتلصص بين الفينة والأخرى على بعض الطلاب العابرين أمامه، يرى ظهورهم تتكئ عليها الحقائب التي يشتهيها.
“صباح الخير عمو،  لم يجب، عمو أنا رفيقك فيني احكي شوي معك”؟
نظر إلي ولسان حاله يقول: ما الذي يريده هذا مني “دعني وشأني تأخرت على المدرسة”.
أدركت أنه غير مطمئن إليّ  لذا قررت أن أحادثه عندما يصل إلى مدرسته، هناك سيشعر بالأمان حتماً، وهذا ما كان فعلاً، أخبرت معلمته أنني أريد الحديث إليه قليلاً لنقبس من عزيمته وعزيمة زملائه نوراً لا نضلّ به، تحدثت معلمته إليه همساً، ثم جاء إليّ يضحك، صافحني بيده الكريمة وجلسنا على حافة سور المدرسة، وضع حقيبته البلاستيكية في حضنه، لا أدري إن كان يعلم بداخله أن حديثنا سيكون عن هذه الحقيبة الطارئة بالذات، كما أنه لم يكن يدري أنه اخترق قلبي بتلك الحركة العفوية وأوقعني من شاهق يقظتي في حضيض الدرك الذي أوصلنا إليه تجار الدم ومرتزقة الحرية الجدد، فأسأله: ما تلك التي في حجرك يا يوسف؟ نظر إليّ وكأنه ينتظر أن أجيب أنا على هذا السؤال الغبي!! وعندما التجأت إلى الصمت خجلاً قال بكبرياء ساحر: “الشغلة مو بالشنطة، أنا جاي أدرس وبكرا رح جيب وحدة حلوة كتير”.
حسناً يا صديقي الصغير لماذا لم يجلب لك والدك حقيبة؟ “بابا كان عندو دكان فيها كتير شغلات، بس الدكان راحت بعد ما تركنا بيتنا، بكرا بس ترجع رح يجبلي كل شي”.
وأتابع معه: أين يقع بيتكم؟ أشار بيده: “هونيك” طيب أين كنت تسكن وأسرتك؟ ما اسم المنطقة؟ لم يعرفها واكتفى بتلويحة يديه بعد أن أنّبني “قلتلك هونيك”.
رن الجرس ونهض يوسف دون أن يودعني، حمل كيسه المليء بالكتب والدفاتر ومضى لينال حصته من العلم، الشمس التي رافقت خطواته أخبرتني: سيكون بخير.. هؤلاء لا تعرف قلوبهم الحزن.
ركض يوسف وتاهت قامته الطفولية بين الطلاب، إلا أن صوته مازال يحفر برأسي كلماته القليلة “بكرا بس ترجع الدكان…..”.
قررت أن أعود حين ينتهي دوام المدرسة ويعود الطلاب إلى منازلهم حينها سيكون الحديث إليهم أسهل.
الطفلة ريم طالبة في الصف الرابع الابتدائي: أريد حقيبة زهرية اللون وعليها صورة فلّة.
عندما وقفت أمام الباب الأسود الذي يخرج الطلاب منه، كانت لدي علامتي المميزة لأنتقي نجومي، أكياس بلاستيكية مرفوعة فوق الظهور الصغيرة.
مرت أسراب الفراشات أمامي، ضحك وأحاديث طفولية لا تنتهي، صخب مدهش وأليف يعبر باب المدرسة ليملأ النهار بالبشاشة.
بين العديد من الطلاب أصحاب العلامة التي أنتظرها  بدا وجهها مشرقاً كغيمة عطر، وهي تتقدم ببطء بين رفاقها وعيناها تفتش عن أحد ما، راقبتها بعيني أب لأرى أين ستذهب، ثم ركضت باتجاه سيدة أربعينية، متشحة بالسواد وعيناها تفيض منهما ضحكة فرح بلقاء ابنتها، رغم هالة الحزن المحيطة بها، دنوت منها ومن ابنتها الصغيرة بعد أن حملتها مُرحبة بقدومها بكلام أمومي يعيد الحياة للأنهار الميتة إن هطل عليها، كان حديثاً مقتضباً لكنه ألقى في قعري حجراً ثقيلاً، ارتبكت وأنا أسأل هذه الأم عن السبب الذي جعل “ريمها” تحمل كيساً عوض الحقيبة، داعبت خد ابنتها وهي توجه الكلام لها: “انشالله رح جبلا شنطة بتجنن” قاطعتها ريم بقولها وهي تضحك “بدي ياها زهرية وعليها صورة فلة”.
الدموع بقيت حبيسة في عيني السيدة الفاضلة وهي تخبرني بأنها أم لأربعة أطفال وهي أرملة “طعام الأولاد أبدى ليفرجها الله” ريم نظرت لعيني أمها معاتبة، لايجوز أن تتكلمي هكذا مع الغرباء، نظرت إليّ الصغيرة بكره شديد.
قلت لها: “ريما بتعرفي انو فيروز غنت إلك غنية حلوة كتير”، ضحكت قليلاً وقالت “أصلا ماما بتغنيلي ياها كل يوم، مو هيك ماما” .
مضت السيدة وابنتها الصغيرة النحيلة محمولة بين ذراعيها، أدارت لي ريم وجهها، وقامت بحركة طفولية كنا نسميها “مجاكرة” في طفولتنا، ولا أدري إن كانت تعرف بتلك التسمية، ولكن ماذا يهم الاسم ما دامت أفعال الأطفال هي هي لا تتغير، عصية على المحو والنسيان، حتى ولو كان الحزن وفقر الحال موجوداً.
أشياء الأطفال لا تتغير تبقى على براءتها، ما يتغير هو العالم القاسي من حولهم، يخذلهم كثيراً ويؤلمهم جداً، لكنهم مستعدون دائماً لمبادلة الدنيا وقسوتها بتلك الحركة التي صنعتها ريم وهي تمد لسانها و”تجاكرني”.
تمام علي بركات