الباحث محمد مراد مروان: طبّ وشعر كيف يتفقان؟..
يقول الروائيّ الفرنسي الشهير سومرست موم في كتابه “تلخيص حياتي”: “لستُ أعرف مراناً للكاتب أفضل من أن يمضي بضع سنوات في مهنة الطب، فالطبيب يستطيع أن يدرس طبيعة الإنسان عارية مجردة لأن المرض يزيل كل تكلّف وتظاهر، وإلى جانب ما أمدني به تعلّم الطب من معرفة بطبائع البشر فإنه زوّدني معرفة بأصول العلم وأسلوب البحث في ميدانه”.. وفي السياق ذاته يعبّر الطبيب الأديب غالب خلايلي مؤلّف كتاب “الحب بين الأدب والطب” فيقول: “بين الطب والأدب علاقة وثيقة ويجمعها حب كبير خالد، فالطب مهنة لصيقة بالحياة، للعلم فيه شأن كبير، كذلك الفن أيضاً، والشعر فرع متميز فيه، والطبيب الأديب الحكيم هو الذي يفهم الخلجات، ويقدِّر السكنات”. من هنا يبين الباحث محمد مروان مراد في محاضرته التي ألقاها مؤخراً قي ثقافي ” أبو رمانة” أن الجمع بين الطب والأدب، شعراً ونثراً قديم قدم التاريخ، ومن يقلّب سجل الأدب العالمي تطالعه وجوه العشرات من المبدعين الذين جمعوا بين مهنتهم العملية وعطائهم الفكريّ، كانوا أطباء وفي الوقت ذاته شعراء وروائيين ومسرحيين: جون كيتز وأوليفر جولد، وروبرت بريدفر.. وأنطون تشيخوف، ووران غاسبار وأوليفر سميت وشارلي ليفرا من عمالقة القصة وأدب الرحلات، وكذلك سومرست موم والفرنسي جورج دي هامل الذي أغنى المكتبة الفرنسية بأكثر من ثمانين كتاباً ليكون الأشهر بين هؤلاء الإيطالي ألبيرتو مورافيا الجراح الخبير والروائي البليغ الذي اعتمد في رواياته على التحليل النفسيّ والحقائق الراهنة، مشيراً مراد إلى أن مشاهير الغرب في الطبّ والأدب يكونوا السبّاقين إلى الجمع بين العملين الإبداعيين، فقد سبقهم إلى الميدان عشرات الأعلام من عباقرة العلماء العرب، والقائمة تضم عشرات المبدعين من الأطباء الأدباء والشعراء في مشرق الوطن العربيّ ومغربه وفي الأندلس، فمن حنين بن إسحق في بغداد إلى يعقوب الكندي مروراً بابن زهر الأندلسي وابن باجة الموسوعي والشاعر وابن رشد أكبر فلاسفة التاريخ وابن سينا وابن مسكويه والخيام والإمام فخر الرازي، ولاحقاً عبد الرحمن الشهبندر ورضا سعيد ومرشد خاطر وصلاح الدين الكواكبي وبشير العظمة وآخرون كثيرون أغنوا المكتبة العربية بمؤلفاتهم القيّمة في الطب واللغة والأدب والرواية والترجمة والسياسة والشعر.
طبّ وشعر كيف يتفقان
كيف يستطيع الطبيب أن يجمع بين عمله العلميّ والشعر؟ سؤال يسأله الجميع برأي مراد والإجابة كما يشير جاءت على لسان د.ابراهيم ناجي:
الناس تسأل والهواجس جمّة طبّ وشعر كيف يتفقان؟
الشعر مرحمة النفوس وسرّه هبة السماء ومنحة الرحمن.
والطب مرحمة الجسوم ونبعه من ذلك الفيض العلي الشأن
في حين يقول طبيب حماة وشاعرها د.وجيه البارودي: “أتيتُ إلى الدنيا طبيباً وشاعراً، أداوي بطبّي الجسم، والروح بالشعر” .
كما يفرد مراد قسماً كبيراً من كلامه للحديث عن المسيرة الرائعة لبعض الأطباء والأدباء والشعراء في وطننا ليكون د.جوزيف كلاس أول هؤلاء، مشيراً إلى أنه نال الدكتوراه في الطبّ البشريّ من جامعة دمشق وحصل عام 1956 على شهادة في أمراض القلب من جامعة باريس، وأصبح بعدها عضو الجمعية الفرنسية لأمراض القلب، وبرز محاضراً وباحثاً أكاديمياً ورصّعت المحافل الدولية صدره بأوسمة خمسة استحقها عن جدارة في مسيرته المتميزة في ميدان الطب والفكر، ومن مؤلفاته “مسيرة الطب في الحضارات القديمة-القلب بين الطبيب والأديب-أناشيد من الفردوس المفقود-أعلام الفكر الأندلسي” ويُعتَبَر د.كلاس برأي مراد واحداً من الأطباء القلائل العرب الذين استهواهم الأدب والتاريخ فجال في الميدانين فارساً مجلياً وكان في كل ما أنتجه كاتباً معتمداً على العمل البحثيّ وعلى مكنوز كبير من الثقافة العلمية والأدبية.
أما الوجه المشرق الآخر في سماء الأدباء فهو عبد السلام العجيلي مشيرأ مراد إلى أنه بدأ كاتباً ساخراً مع سني ممارسته الأولى للكتابة، وهو الذي أحب الشعر في شبابه فحفظ كثيراً منه، وكان شعره عبارة عن قصص قصيرة وحوارات، وقد اعتبر العجيلي أن كل ما مارسه في الحياة هو مجرد هواية، حتى عمله الطبي وكذلك الأدب الذي كتب فيه ما يشتهي، فأغنى مكتبة الفكر بأكثر من أربعين مجموعة أدبية، ومن أشهر مؤلفاته “باسمة بين الدموع-حكايات طبية-حب أول وحب أخير”.
أما وجيه البارودي والذي عُرِف بلقبه “طبيب الفقراء” فقد ذاعت شهرته كما يبين مراد في مدينة حماة كطبيب بارع وكشاعر أشعل ليالي حماة بأناشيده وقد أجاد في الغزل وبرع في السخرية وكان الشعر هو العلاقة الجميلة بينه وبين الحياة:
حكيم خبرتي تسعون عاماً ومدرستي التجارب والعلوم
وأنا الطبيب الألمعي ولي على بلد النواعير اليد البيضاء
أنا المراهق للتسعين يشهد لي شعري ويندر في التاريخ أمثالي
إلى أرض الكنانة
ومن مصر يختار مراد من الكوكبة الرائعة من الأطباء الأدباء من يوصف بالبلبل الصدّاح وهو د.ابراهيم ناجي الذي تخرج من كلية الطب عام 1923 ونشر أولى قصائده في جريدة “السياسة” الأسبوعية التي كان يشرف عليها د.طه حسين وإبراهيم المازني، وانضم إلى جماعة أبولو الشعرية في مصر عام 1932 وكان رئيسها أحمد شوقي، وصدر أول دواوينه “وراء الغمام” عام 1934 و”ليالي القاهرة” ديوانه الثاني عام 1951 وعُرِف بأفكاره الرومانسية التي أشاعها المجددون في مصر وكان من أوائل الشعراء العرب الذين تابعوا بكثير من الفهم والتأييد حركة الشعر الأوربي الحديث، وكان يقرأ بالإنكليزية والفرنسية والألمانية ومثّل شعره تياراً جديداً في الشعر العربي الحديث، مبيناً مراد أن موضوع الموت ظل طاغياً في شعره ويتكرر في قصائده وقد صنع منهما في الشعر معادلاً للحياة:
يا غراماً كان مني في دمي قدراً كالموت أو في طعمه
ما قضينا ساعة في عرسه وقضينا العمر في مأتمه
ما انتزاعي دمعة من عينه واغتصابي بسمة من فمه
ليت شعري أين منه مهربي أين يمضي هارب من دمه؟
ويختم مراد كلامه منوهاً إلى تجربة د. نزار بريك هنيدي الطبيب الجراح، ود. نزار بني المرجة طبيب الأسنان في مجال الشعر والأدب، مؤكداً أن العناية السماوية منحت كلاً منا مفاتيح لمستودعات ألغاز ثلاثة: العين مستودع البصر، والعقل مستودع البصيرة، والقلب مستودع المشاعر الدفاقة، وتركتنا أمام تجارب الحياة، فينا من يأخذه مفتاحاً واحداً فيكون مدار اهتمامه النظر العابر المتعجل، وفينا من يأخذ مفتاح العقل في دروب الفلسفة والحكمة والفكر الجاد، وهناك من يدير مفتاح القلب فيحيا رومانسياً حالماً في عالمه الخاص. أما الأطباء الأدباء والشعراء، فهم كوكبة الصف الأول من المبدعين، لأنهم سيستخدمون المفاتيح الثلاثة بجدارة.
أمينة عباس