ثقافة

التجزيئية وأسئلة لا تُستنفد

أحمد علي هلال

على الأرجح أن الكثير من الظواهر كانت ومازالت تشغل بال مبدعينا، ليس بما تنطوي عليه من سلبية ناجزة فحسب، بل لأنها تشي بتفكك منظومات اجتماعية وثقافية ترمي على الفكر أسئلة شاقة لطالما أنها لم تُستنفد في زمنها وحسبها أنها أسئلة مفتوحة بما يكفي لأن تقرأ الآن بطزاجتها وإشكالها المعرفي الخالص، ومنها على سبيل المثال “التجزيئية كمفهوم ومقاربة، كما ذهبت إليها الشاعرة العراقية الراحلة نازك الملائكة” التي لم تكن شاعرة فحسب بل كانت ناقدة أيضاً ثمة كتاب لها حمل عنوان “قضايا الشعر المعاصر” وتلاه كتاب آخر كان بعنوان “التجزيئية في المجتمع العربي”، انطلاقاً من ذائقتها ومعرفتها وسعتها النقدية، لتقرأ التجزيئية في المجتمع العربي كظاهرة اجتماعية عامة تسيطر على الفكر العربي والحياة العربية، حيث تقول نجد الفرد إجمالاً يفصل مالا ينفصل ويقع نتيجة لذلك في تناقضات واضحة ومشكلات ما كان ليصاب بها لولا هذه التجزئة فيما لا ينبغي أن يجزأ، لكن صاحبة “عاشقة الليل، شظايا ورماد، قرار الموجة، وقصيدة الكوليرا” استطاعت جمع أبحاثها فيما يخص “التجزيئية” التي كتبت في ظروف متفرقة ما بين عامي “1953-1969” أرادت أن تذهب إلى الظاهرة التي طاولت التجزيئية في الفكر والمجتمع والثقافة والدين وأنماط السلوك الاجتماعية الأخرى. فعلى سبيل المثال عندما تتناول في بحثٍ لها عن المرأة بين السلبية والأخلاق لعلها تذهب هنا إلى فكرة الحرية، فالناس يحسبون أن من الممكن أن يكون الرجل حراً كل الحرية بينما المرأة أسيرة القيود، تقول نازك الملائكة: “كيف يكون الرجل حراً وهو ممنوع من إنشاء صلاة أخوية ودية كريمة مع مجموعة من النساء المتصفات بالحرية المشروعة” لتؤكد أن المجتمع “الرجالي” المحض لا يمكن أن يتمتع بالحرية الكاملة بينما هو محجوب عن وجود المرأة إلى جواره، وهكذا سعت لرصد مراحل التجزيئية في الثقافة والإبداع وغيرها لتجد أن التجزئة لدى من يقول أقوال كبيرة ولا يعمل شيئاً مثل هذا الفرد يحس التجزيئية ملء حياته، لأنه في دخيلة نفسه يشعر أنه مجزأ، جزء من نفسه سام براق له مظهر الصدق وجزء آخر ملوث كله كذب ويستحيل أن ينسجم الجزآن، وكذلك وقوفها على التجزيئية التي تفصل اللغة عن الأخلاق لتقول في سياق ذلك: يتوهم الجمهور العربي أن لا علاقة بينهما، بينما الواقع أن المجتمع الذي يقول أكثر مما يفعل يعتاد الإسهاب والتطويل في الكلام، لأنه يشعر بكذب ألفاظه فيميل إلى تأكيدها بالإطالة، لكن أنصع ما قالته نازك الملائكة سيتجلى بعنوان لافت هو “الأدب والغزو الفكري” لتشير إلى أن وجه الخطر في الغزو الفكري أنه يستهدف روح الأمة وجذورها، فلا يلقيها إلا وهي أشبه بثمرة امتص رحيقها فلم يبق منها غير القشر والنوى، وكذلك فهمها لمدلول كلمة الأديب في مجتمعه أنها جاءت مثقلة بمعاني جانبية لترى أن المفهوم الدارج لكلمة الأديب أنه يهتم بالشكل على حساب المضمون، فحالما نذكر أديب يتبادر إلى الذهن أنه ذلك الذي ينظم القصائد أو يكتب القصص ولا يكاد يتبادر إلى الذهن مطلقاً أن للأديب مكان بناء في المجتمع، فهو يشيد وينشئ ويقيم الأسس ويحدد الأطر، وما القصيدة والقصة والمسرحية إلا أنماط شكلية يصوغ الأديب فيها أفكاره، وهكذا رأت أن كلمة أديب اقتصرت على معنى بلاغي فأصبح الأديب من يكتب بأسلوب جميل فيه بلاغة التعبير وجمال الصورة والرمز. فهل أصاب الفيلسوف الإيطالي كروتشه حينما قال إن الدعوة إلى الفضيلة ليست مهمة الفن بل مهمة الأديان وعلم الأخلاق؟ ذلك السؤال الذي أهرقت سجالات كثيفة في مقاربته وكأنما التجزيئية هنا التي ساورت الشاعرة نازك الملائكة يوماً أي في الفصل بين الفكر والسلوك والقول والعمل قد غدت حقيقة بتنا نرى تجلياتها وصورها في يومياتنا الراهنة ما يعني وجوب أن نعود إلى مفهوم رسالة الأدب ورسالة الفكر، ليس من أجل إحيائهما فقط، بل من أجل أن يكون مجتمعنا في درجة من العافية المعرفية التي تمكنه من مواجهة ما يفصم عرى ذاته ومجتمعه للحد من الأزمات الروحية والتي أصبحت هاجس إنساننا المعاصر.
لقد أصابت الشاعرة والناقدة نازك الملائكة في إثارتها “لتيمة” مازالت تجلياتها إلى الآن تتوالد بشكل أو بآخر وهي الآتية من أفق إنساني وقومي لم يبرح مأثرة أن الإنسان كلٌ واحد لا ينبغي تجزئته مطلقاً.