قائد الأوركسترا والعصا السحرية عوالم بين الواقع والحلم
ورد ذكر العصا السحرية في القرآن الكريم والتراث القصصي والأساطير، لكنها تجمع بين الحلم والواقع حين يمسكها قائد الأوركسترا ليحركها بيده ويحدد الرتم والإيقاع الزمني للمعزوفة، مديراً ظهره للجمهور وواقفاً على المربع الخشبي عكس كل الفنانين والعازفين والموسيقيين ليكون في مواجهة الريح -كما يقال- ويقود عدداً كبيراً من العازفين الذين يعزفون أهم المقطوعات العالمية وفق رؤيته الموسيقية الخاصة.
وقادة الأوركسترا قلة على مستوى العالم وقد وصفهم الباحث الموسيقي وضاح رجب باشا بالموهوبين والعباقرة لصفاتهم النادرة، في محاضرته في المنتدى العراقي التي خصصها للحديث عن قائد الأوركسترا والفرقة السيمفونية والتطور الزمني الذي طرأ على الأوبرا والكونشرتو.
الموضوع شدّ الحاضرين الذين يتابعون الأمسيات الموسيقية ويتطلعون إلى إشارات العصا السحرية دون أن يعرفوا ماذا تعني هذه العصا، ويلاحظون ملامح وجه قائد الأوركسترا المشدودة إلى تواتر اللحن وابتسامته في مواضع أخرى. اعتمد الباحث على الجانب المرئي في شرح محاضرته إضافة إلى الجانب النظري عارضاً على الشاشة مقتطفات لأهم الفرق السيمفونية التي عزفت مقطوعات (لاف ستوري وشهرزاد وليزا وغيرها)، وأظهرت التطور الزمني الذي طرأ على الأوركسترا السيمفونية من حيث الآلات والمكان ومعنى الكونشرتو موضحاً خاصية الرؤية الموسيقية لقائد الأوركسترا، كما قدم مقطع لقائد أوركسترا تركي أقدم على مغامرة إذ غيّر من مقطوعة عالمية لموزارت التي غنت على أنغامها فيروز، فاستبدل آلات الكمان بآلات إيقاعية (الدربكة)، فمضى اللحن بروح شرقية غريبة وبقي موضع رفض وقبول وإعجاب لدى الجمهور عالمياً، والملفت أن قائد الأوركسترا كان يضحك أثناء تصاعد إيقاعات الدربكة منسجماً مع روح اللحن الجديدة.
أوصل الباحث فكرته إلى الجمهور الذي خرج من المحاضرة يفكر بسحر تلك المقطوعات التي ترجمت أشهر قصص الحب في الروايات العالمية التي شغلت حيزاً في المكتبات العامة والخاصة.
الآلة البوليفونية
وفي حديثه عن الآلات الموسيقية بدأ الباحث بتعريف الأوركسترا التي تعني مجموعة من عازفي الآلات الموسيقية المختلفة لأداء عمل موسيقي ما حسب مواصفات علم الصوت في الطابع والمدى والعدد المقرر من العازفين وآلاتهم، وقد أُطلق مصطلح الأوركسترا على فرقة تتجاوز الأربعين عازفاً، وأوركسترا الحجرة تتألف من خمسة عشر عازفاً إلى خمسة وأربعين عازفاً، وأوركسترا الوتريات تضم أسرة الكمان وفق عدد عازفيها فنقول خماسي أو رباعي، وكذلك أوركسترا المسرح والميوزيكا، بينما تتجاوز الأوركسترا السيمفونية 85 عازفاً وتؤدي الأعمال الموسيقية الكبيرة والافتتاحيات.
الآلات النفخية والإيقاعية
أما عن التطور الذي طرأ على الأوركسترا فأضاف الباحث أنه قبل القرن السابع عشر لم تكن معالم الأوركسترا قد توضحت فأية آلة بوليفونية ممكن أن تؤدي المؤلفات الموسيقية، والآلة البوليفينة هي الآلة التي تؤدي عدة أصوات معاً مثل العود والبيانو والأرغن، ومع التطور الزمني تشكّلت الأوركسترا بعدد يتراوح بين (18-35) عازفاً ومؤلفة مابين الوتريات وآلات النفخ الخشبية والنحاسية والآلات الإيقاعية، وكانت هذه الآلات تؤدي الطبقات الصوتية الأربع الأساسية وهي السوبرانو والآلتو والتينور والباص، ثم دخلت مؤلفات الكونشيرتو الحوارية والسوناتا (الموسيقا الكنائسية).
وبرزت آنذاك أوركسترا مانهايم وباريس ولايبزيغ وكان التوازن الصوتي منسجماً مع أسرة الوتريات، ومع وجود المؤلف الموسيقي هايدن تضاعف عدد الآلات الوترية إلى أن جاء بتهوفن وأدخل الكلارينيت، ثم الآلات النفخية الخشبية، وبقيت أغلب مؤلفات بتهوفن وشوبان وشوبرت تعتمد على الوتريات أكثر من آلات النفخ النحاسية أو الخشبية، ومع ظهور السيمفونية ازداد حجم الأوركسترا وأصبح التوزيع الموسيقي واضحاً. وهنا عرض الباحث مقطوعات مرئية للمؤلف بيرليوز في “ساكنتوس” الذي استخدم 37 آلة نفخ خشبية ونحاسية مع 100 آلة كمان إضافة إلى الآلات الإيقاعية، وشرح محاولة فاغنر الذي -كما قال الباحث- حاول التفصيل في أسرة الكمان واستغل حركة الأقواس وصولاً إلى انسجام أكثر مع اللحن، وأشار إلى حساسية ديبوس الذي لوّن بالتركيب الأوركسترالي. وتوقف الباحث عند تتابع العصور وما حمله من تطور سيمفوني ففي العصر الرومانسي غدت الآلات النفخية تساند الوتريات، وفي العصر الاتباعي كانت الأولوية للأورغن والكمان وفي العصر الإبداعي بدا التوزيع الموسيقي يأخذ سمة إبداعية، وفي العصر الحالي أصبحت الأوركسترا أكثر تطوراً لتطور العنصر الإلكتروني وصار التوزيع الموسيقي يتطلب قائد أوركسترا يلّم بكل خصائص الآلات الغربية لتوظيفها بشكل صحيح لأداء الجمل الموسيقية وفق رؤيته، وهنا أفرد الباحث مساحة كبيرة للعرض المرئي بعرض مقطوعات من معزوفات سيمفونية بتوزيع موسيقي مختلف باختيار آلات الصولو وبقية الآلات، وأوضح الفروقات الفردية التي تتبع لذوق القائد وقدرته الموسيقية وفهمه لها وفق رؤيته.
شخصية قيادية
المحطة الأخيرة في المحاضرة كانت تحليلية لشخصية قائد الأوركسترا، فهل يستطيع أي موسيقي درس العزف والموسيقا أن يقود الأوركسترا بالطبع لا؟ فقائد الأوركسترا كما قال الباحث يجب أن يعرف خصائص كل الآلات الموسيقية، ويدرس الأعمال الموسيقية العالمية دراسة وافية، ويدخل في سبر شخصية المؤلف ليعرف طبيعة حياته وسلوكياته والشدات النفسية التي تعرض لها ومدى انعكاسها عليه، وعلى الصعيد الشخصي لابد من أن يمتلك شخصية قيادية شكلاً وحضوراً وإحساساً، ويمتلك خاصية التمرد الموسيقي، ويجيد العزف على أربع آلات إجادة تامة ويكون على دراية بكل النظريات الحديثة في الموسيقا والفرق السيمفونية، والأهم من ذلك المخاطبة الروحية بينه وبين الموسيقيين المنفذين العمل.
ملده شويكاني