ثقافة

أغنية حزينة لمن لا صوت لهم .. في “الصلاة لأجل المخطوفات” لجنيفر كليمانت

في زمن الخطف وتجارة أعضاء البشر والرقيق الأبيض حيث الجنس والمخدرات آفة الزمن المعاصر نتساءل من أين تسرب هذا الأخطبوط إلى حياتنا الآمنة وكيف لأذرعه السامة أن استطالت وتحولت وتجولت في أغلب مدننا، ولطالما اعتقدت أن هذه الحالة حالة شاذة  على الطبع الإنساني، غير أن مطالعتنا للأدب الإنساني وأدب أمريكا اللاتينية تحديداً أضاءت مسألة هامة ألا وهي عولمة الجريمة والفساد. تلك هي حصتنا من اقتسام العالم جاءتنا على أجنحة الربيع العربي السوداء.
بهاء الجمال وميعة الصبا النغم الذي يراود مخيلة الكثيرات ويجعلهن قبلة الأنظار ومتعة المتأمل. ميزة أصبحت نقمة على حاملتها في رواية “صلاة لأجل المخطوفات” للكاتبة  المكسيكية جنيفر كليمانت- ترجمة عبير المرعي من منشورات الجمل لعام 2015 التي وصلت إلى القائمة النهائية لجائزة الأورانج لعام 2002 والحائزة على جائزة سارة كاري الإنسانية لعام 2014واختارتها النيويورك تايمز كأفضل كتاب للعام 2014.
البراءة المقتولة، والطفولة المصادرة والمستقبل المذبوح لفتيات يافعات طالعناها على مدى 288 صفحة حيث مافيات المخدرات والجنس تقتل البشر والحجر وتلوث الماء والهواء، وتجعل الحياة في تلك البقعة النائية من العالم أشبه بالمستحيلة ومع ذلك تقول الأم، أم بطلة الرواية بوصفها لذاك المكان النائي “المكان الذي يجعلنا أكثر غضباً ولؤماً في العالم” في تعبير انعكاس الطبيعة والظروف على الإنسان ولأي حد تترك تشوهاً يعلق بذات الكائن وروحه ومع ذلك تؤكد رغم أنها فاقدة لكل شيء. تقول: “أحب هذا المكان أكثر من أنفاسي” الأم التي تخترع طقوساً خاصة لصلاة بدائية ضمن وعيها الفطري وفقدان الأمل من الإله المتعالي في السماء والإدارات المتعاقبة على المكان فهي تصلي للمطر، للتراب، للحشرات للوجود المحدود الذي تتواصل معه إذ تراه أكثر تفاعلاً مع أشيائها وآلامها وانكساراتها، تلقن مناجاتها عناصر الطبيعة لابنتها راوية الحكاية  “ليديدي” الشابة التي تبلغ السادسة عشرة من عمرها واسمها المستعار من الأميرة ديانا ذو تعبير مزدوج، فهي عنوان للجمال والرفعة في نظر العامة وقديسة النساء المخدوعات بفهم أمها الخاص، حيث تقوم الأمهات بطلي وجوه بناتهن بالشحار وقص شعورهن في محاولة لإضفاء القبح والتشويه على ملامحهن الرقيقة كي لا يلفتن نظر المتوحشين لوجود فتاة في ذاك المكان النائي بوصفه مسرحاً نشطاً لعصابات المخدرات التي دمرت الحياة الريفية البسيطة بقيامها بزراعة وتسويق المخدرات بتسهيلات من السلطات المهيمنة، حيث المبيدات ترش على السكان الآمنين لأن الجنود المكلفين برش المناطق المزروعة بالمخدرات يخشون بنادق المافيات ورشاشاتهم التي لا تعرف الرحمة،، فيرمونها على بشر مسالمين لايملكون سوى حياة رخيصة بمنطق أمراء تجارة الأفيون. فالباركوات المبيد السام رفيق الموت لايصيب سوى القرى البائسة، حيث المجتمع مكون من النساء فقط، فالرجال تهاجر وتغادر المكان الموبوء بالجريمة والفساد وحسب تعبير الأم “الرجال جميعاً مشوا إلى المقبرة الكبرى المسماة الولايات المتحدة الأميركية” ليعملوا سخرة في أعمال مهينة في حال نجوا وأفلتوا من حراس الحدود وليكونوا برغياً في عجلة اقتصاد مافتئ ينتج أسلحة موتهم ودمارهم.   نتابع حياة البطلة اليافعة من منزلها في الأدغال إلى قصر في أكابولكو حيث وُعدت بعمل لدى القائمين عليه وهناك تتعرف إلى خوليو حبها الأول وشعاع النور في حياتها الذي خبا باكرا  قبل أن تساق إلى سجن النساء  في مكسيكو لتتعرف إلى قصة اختطاف صديقتها باولا كاملة منذ اقتيادها لتصبح خليلة لأعتى مجرمي المخدرات، مروراً بمصرعه مع طفلتها واتهام “ليديدي” بمساعدة مرتكب الجريمة والتكتم عليه، لتنتهي إلى السجن حيث لكل سجينة قصة من القهر والظلم، ولتجد التعاطف والرحمة من قاتلة بعد أن أخبرتهما عن العقارب التي اختبأت وإياها في جحور الأرض كي لا يراها ويلحظها مافيات الكوكائين.   الصورة الفاتنة للمكسيك والأجواء الساحرة لدول أمريكا اللاتينية التي سوقتها المسلسلات المكسيكية الوافدة كدراما بعيدة عن الواقع، لا مكان لها هنا إذ شكلت مع المخدرات صنوان في تخدير العقول، حيث الحياة في المقلب الآخر من البؤس والدمار النفسي لبشر على حافة الانهيار، حياة استلاب بالمطلق لكل تلاوين العيش وقهر مستمر لأمهات يعشن قلق اختطاف بناتهن اللواتي سيختطفن عاجلاً أم آجلاً.
الحقيقة التي لا يستطيع الجميع التفوه بها أو الإشارة بالإصبع نحوها لأن من يقولها مصيره في علم الغيب يشهد بذلك مصرع العديد من الإعلاميين والصحفيين الذين قضوا وهم يحاولون فك شيفرة وطلاسم ذاك الترابط العجيب، والتفاهم غير المرئي  بين الإدارات المحلية وعصابات الماريجوانا والخشخاش المقنع بصدام يأخذ شكلاً ظاهرياً وما خفي كان أعظم. هذه الحقيقة المرة  تتحول في الذاكرة الجمعية لأغنية تتردد على شفاه العامة ذاكرة للتاريخ المعذب والمستعصي على النسيان، غنتها “جنيفر كليمنت” بلغة بسيطة وسهلة واضحة وضوح المأساة بكل ما فيها من خسارات نفسية وآمال مجهضة ونفوس محطمة ترتقي لتكون ناقوساً يقرع في زمن خفوت صوت وارثي الموت والعذاب، لتغدو نافذة الأمل إمكانية هروب الأم وابنتها ومعهما صديقتها الناجية من الموت إلى المجهول  خارج هذا الجحيم المستعر.
الكاتبة كليمنت مكسيكية أميركية ولدت عام 1960 في الولايات المتحدة الأميركية وعاشت في مدينة مكسيكو، درست الأدب الإنكليزي في جامعة  نيويورك والأدب الفرنسي في باريس، وترأست نادي القلم في المكسيك بين عامي 2009و2012 ولها العديد من المؤلفات والمنشورات منها”السم الذي يفتننا” و”أرملة باسكيات” وهي دراسة عن الشاعر جان ميشيل باسكيات وبعض الدوواين الشعرية “بحار نيوتن، سيدة الوزال، الغريب التالي”.
ومن الجدير بالذكر أن الكاتب الكبير غابرييل غارسيا ماركيز قد تناول ذات الموضوع في روايته “خبر اختطاف” المنشورة عام 1996وإحباطه الكبير كان  بمعاناته أن أياً من المخطوفين لن يجد على الورق شيئاً أكثر من انعكاس ذاوٍ للرعب الذي عاشوه في الحقيقة  مركزاً على تحليل عميق لكل من بواطن شخصيات المختطفين والخاطفين، كذلك في حمى صراع الوجود واستمرار العيش بوصفه الظالم والمظلوم ضحية لتيار جارف من الفساد والعنف لا يترك مجالاً للفرد بالاختيار، حيث التصفية الجسدية والفناء أو العبودية المادية والجسدية لأرباب المال والظلام  في حمى حروب الهيمنة والاستحواذ على مقدرات البشرية، وطمس ملامح القيم الأصيلة والمبادئ السامية والمشاعر النبيلة، ورغم ذلك لا بديل عن الأمل لمن لا صوت لهم كبصيص ضوء وبارقة حلم تنهض من تحت الرماد.
دعد ديب