ثقافة

الإدهاش والسحر في اللعبة السردية رحلة في رواية “لو أن مسافراً في ليلة شتاء” لـ ايتاليو كالفينو

“لو أن مسافراً في ليلة شتاء” الرواية التي تبدأ بفخ الرواية عبر أسر القارئ في خيوط قبل أن يعي معانيها لأنه في اللحظة التي يتكشف للقارئ انقشاع ضبابيتها يبدأ خط التشويق في التخافت رويداً رويداً.
مدهش في السرد، ساحر في التقاط العقدة الدرامية، مجدد في المعمار الروائي، هو الحداثة الروائية إذا جاز لنا التعبير فالفكرة التي يستهلها كالفينو، تبدأ عبر أخطاء في جمع الملازم الضامة لأوراق الرواية، بحيث جعلت صفحات أكثر من رواية تدخل في رواية أخرى.

وهكذا كان على القارئ أن يلاحق النسخ الصادرة عن الطبعة ويدوخ بين الناشر والمترجم والكاتب ليدخل في قصة أخرى لها حبكتها وتشويقها، وهكذا فكل حكاية تكون مدخلاً للأخرى معيدة للذهن حكايا ألف ليلة وليلة، حيث نتفق مع رولان بارت أنه ما من نص أصيل بالمطلق، أو ربما هناك ذاكرة كونية يعيد تركيبها وهندستها مجددون ومغامرون باستمرار حيث تتتالى العناوين للروايات الناقصة على التتالي:
“لو أن مسافراً في ليلة شتاء”المسافر الذي يقوم بمهمة سرية لصالح مجموعة ما بتسليم حقيبة لجهة مجهولة ليصدم أن العميل الذي ينتظره هو في أعلى الهرم السلطوي.
“خارج مدينة مالبورك”..استبدال إقامة فتى بآخر من آل كاودوير لخطر يتهدده وكيف يحتل آخر كينونة  شخص آخر مكانه، سريره، عشقه، صوره، ضمن عملية ترقب لحبيبة الآخر وشكلها ليعطي صورة عن ملامح نظام بوليسي قامع،  “الميل من شرم الهاوية”: يكلف الفتى بتسجيل بيانات المرصد للأحوال الجوية المحاذي للسجن ويرصد في ذات الوقت الفتاة الرسامة، كما هناك استحضار للغة السيميرية المنقرضة إشارة إلى أن لا زمن ما للرواية، الرسامة التي تزور السجناء يؤرقها رسم كلابة حديدية مع حبل فيها ويثير الشاب ريبة الجهات المعنية ببحثه عن هذه الأدوات ليفاجأ بسجين هارب يطلب مساعدته بالتخفي، “ينظر من أعلى في الظل المحتشد” حادثة التخلص من جثة بإلقائها من أعلى عبر شخصيات مافيات المال والمضاربات، والتي تتوقف برؤية جزمتي القتيل في الكيس بين أيدي الجناة
“بلا خوف من ريح أو دوار”..  ثلاثة، شابان وفتاة يصيبها الدوار عبر سيل من البشر التي تتدافع عبر تقلبات عسكرية بين قوى ثورة وثورة مضادة والفتاة التي تتحدث عن دوارها، كأنه غواية تستعيد حذاقتها وقوتها في معادلة المرأة والرجل التي تقول بالتخلي عن فكرة رأسية العمود للخط المستقيم، للزهو الذكوري واستبدالها بالتلوي الثعباني ليفاجأ واحد من الشابين المرافقين بأن من يحمل حكم الإعدام له قريب جداً إليه.
“في شبكة من خطوط لتتشابك”رنين هاتف يطارده أينما ذهب في إيقاع مستفز مع كل احتمالات السبب أن يكون في الجانب الآخر من الخط شخص في خطر يرد على تلفون لا يخصه، يتقصى في المعلومة التي ترده ليعلم أنه ثمة طالبة تربطه بها علاقة ملتبسة في خطر. ويتأكد من ذلك عندما يذهب للعنوان ليجدها مكبلة “في شبكة من خيوط لتتقاطع”كان يتفنن في التخفي وابتداع أشباه له في الشكل والحركة والقدوم والإياب واختراع حالات خطف وإعدام له مزيفة، ضمن محيط أعماله وشركاته تخوفاً من حالات حقيقية من قبل أعدائه الكثر ليفاجأ بمحاولة اختطاف تتم من قبل زوجته جامعة إياه مع عشيقته السرية في غرفة المرايا التي ابتدعها لتتكسر صورتهم إلى أجزاء عبر متاهة الجزء والكل، “على بساط من أوراق ينيرها القمر” حكاية الباحث الشاب الذي يقيم عند البروفيسور المسؤول عن بحثه ويعجب بابنته لكنه يقيم علاقة مع زوجته ليدرك فيما بعد أنها الفخ لأجل استبقائه تلميذاً عند الزوج، “حول قبر فارغ” وصية أب لابنه عند الموت بأخذ حصانه والتوجه لمنطقة معينة ليتعرف إلى أمه التي يجهل وجودها. يذهب الابن إلى منطقة يختلط فيها دم الهنود مع دم البيض التي يستنتج من ذاكرة الموجودين قصة صراع والده مع هيوميراس وتغلبه عليه في مشاجرة حول فتاة حيث نصره كان بطعم الهزيمة للقبر الذي لا يقيم ساكنه فيه بل تحول إلى شبح يهيم ويعود ثانية ليصارع الابن من جديد.
“أي حكاية قابعة هناك تنتظر نهايتها” شخص يلعب بمحاولة إمحاء من لا يعجبوه من الوجود من محاكم لصحة لرؤساء هياكل اقتصادية من صناعة من قنص من صيد، ليبقى وحده مع حبيبته على مسطح من جليد، لكنه مع ذلك هناك ثمة احتمالات لكل جديد لترتيبات جديدة للعيون التي تراقب وتحاصر كل شيء عند الخط الفاصل للشرخ الحاصل بالكرة الأرضية يشابه لعبة الدمى  الروسية “ماتريوشكا” اللعبة التي بداخلها لعبة أخرى وهكذا أصغر فأصغر، لكن في لعبة السرد هذه المرة حكاية ضمن حكاية، إلى أن تبلغ عشر حكايات يقف فيها عند حد التشويق العالي ضمن فانتازيا سردية تقوم على إشراك القارئ بالحادثة الروائية معتبراً القارئ شريكاً وصديقاً وصانعاً للحكاية عبر الدخول في عتبات مسرات القراءة التي لاتقاوم من جهة وعبر استعراض نظريات القراءة حيث هناك قارئ خارج النص وآخر داخل النص وقارئ ضمني وعند كالفينو القارئ في صلب  النص والمشارك في صنعه كما نرى في العمل الذي نتلمس تفاصيله لنرى الثقوب التي تبقى في النص الأصلي ليصار إلى القارئ مهمة ملئها بما يتفق مع خياله وذائقته من خلال ابتداع شكل جديد للفعل التشاركي بين الكاتب والقارئ ، للقارىء حضور كثيف وطاغٍ في الرواية يعكس احتراماً وتقديراً لمتلقي العمل الذي يكون مرة أحد شخوصه، ومرة قارئاً للحدث الروائي، والمتابع للخط السردي من حكاية إلى أخرى يقتفي أثر حبكة ليغوص في الحكاية التي تليها إلى أن يكون هو الحكاية ذاتها ومرة أخرى يخاطب القارئ البعيد ويحاوره بتجاذبات داخل الرواية وخارجها بآن واحد.
رواية “لو أن مسافراً ذات شتاء” التي كان لها أن تمثل مجموعة قصص قصيرة لولا أنه توقف عند العقدة فيها وربطها بقارئ يتتبعها ويتشوق لمعرفة ما تؤول إليه الحكايا ليمنح القارئ متعة الطريق لا متعة الوصول وإفراغ الشحنة التي حملها منذ أن تورط بفعل القراءة، متعة البحث والتخيل ومحاولة تصور وضعيات مختلفة للنهايات التي بدأت وهنا فعلاً يشرك القارئ بالمسرود المتنقل والتصور الروائي.
كل الحكايات لها وجهان: استمرارية الحياة وحتمية الموت. يختار الكاتب الحياة بلقاء قارئ وقارئة ضمن خيارات الحياة الكثيرة، حيث بهذا اللا اكتمال في مجمل حكاياه يومي إلى صراعات عالم ناقص كذلك لتصوير  تعبيرات عن الإنسان المعاصر الممزق، وغير المكتمل وفي كل حكاية قصة وإشكالية تحيلنا من حيث   ارتباط المعقول باللامعقول والخيالي بالواقعي من خلال اجتراح أساليب سردية طازجة رغم مرور زمن ليس بالقليل على ابتداعها.
دعد ديب