عادات لا تتبدل
تمّام علي بركات
عبقت رائحة البارود التي بقيت عالقة في روحه ووجدانه، وهو يبتسم بهدوء مصغيا لذكرى ذلك اليوم، الذي قاده فيه قدر قاس لا يرحم، لأن يفتح غطاء التابوت الذي سجي فيه جثمان أخيه، الشاب الثلاثيني الذي قضى نحبه –والذكر منه مخلد- في واحدة من الحروب التي دارت على تخوم العاصمة، قبل أن ينتشله صوت أمه من هاوية كان يغرق فيها رويدا رويدا وخدر خفيف يسري في أصابع يده.
ألا تريد أن تخبرني الحقيقة؟ قالت الأم وهي تنظر إلى يديه، فهي من رباه وهي من تعرف بالتأكيد متى يجيب بصدق خالص وهي بطبيعة الحال من تعرف أنه عندما يضطر للكذب يشبك أصابعه وينظر إلى من يتحدث إليه بشكل مباشر جهة العينين كان نائما، قال لأمه التي سألته بحرقة قلب إن كان قد عانى قبل أن يموت؟ فتابع: لولا رائحة البارود والثقب الأسود الذي اخترق قلبه، لما قدر كائن في العالم على حملي لاقتنع بأن من كان بالأمس فقط يحكي لي وبسمة الرضا لا تفارق وجهه المنير عن أيام خير قادمة لا محالة بعد كل هذا الحريق، ها هو اليوم مسجى وعلم البلاد يتهادى على جثمانه كسماء ملونة.
تغيرت عادات كثيرة في حياة هذه السيدة الخمسينية التي نال الحزن من قلبها هذه المرة كما لم يفعل قلب، فالأولاد الستة الذين كانت تضعهم في سريرين متلاصقين ثم تعدهم قبل أن تغفو ليطمئن قلبها فتستطيع النوم، غادر أحدهم أغطيتها الدافئة في شتاء باكر، أبطلت عادة العد الغريبة تلك ولم تعد مهتمة بورود ونباتات فسحة البيت، التي بقيت ترعاها لعشرين عاما كما رعت أولادها، ذبلت الزهور في الحوض ونبتة الريحان ذوى عبقها، أما شجرة الزيتون التي زرعتها بعد أن قامت بجلبها مع تربتها من مسقط رأسها، فلا زالت مثلها تكابر على الجراح والأنين السابح في الجو محمولا على أشعة الشمس ونسمات تشرين الباردة، تنمو وتكتمل آهاتها الخارجة من وجيب القلب برفقة نور قمر تشريني يلمع في ليالي دمشق الباردة فيخلع على الحزن ألفة غريبة.
إلا أن عادة وحيدة لم تغيرها أبدا، بل حتى أنها ابتكرت لها طقسا جديدا لم يكن قبلا موجودا، قهوة الصباح التي اعتادت أن تحتسيها يوميا مع أبنها الذي رحل برفقة صوت فيروز ورائحة البخور، لم يمنعها غيابه القسري عنها أن تبطلها، ولأنه غائب في الحياة حي في القلوب، طلبت إلى زوجها أن يكّبر صورة لابن رحمها بحجمه الطبيعي، وصارت كل يوم تستيقظ على عادتها، تبخر البيت وهي تتلو بصوت هامس آلاء من القرآن الكريم، تمضي بعدها لصنع القهوة التي تعبق رائحتها في البيت وتمسح عن جدرانه شيئا من الكآبة التي بقيت عالقة عليها على شكل آهات مكتومة خرجت يوما من صدر هذه السيدة وأبت أن تفارق الهواء الساكن البيت بعد أن تعلقت به كحجاب أو تعويذة، ثم تدلف إلى مطبخها تضع ركوة القهوة على النار وصوتها يطير عبر الممررات والجدران إلى سرير ابنها الذي كان يغفو بين أغطيته وصار أبد الدهر صاحيا في صوتها وفي صورة له بحجمه الطبيعي وضعت بعناية بالغة في المكان الذي كان يجلس فيه عادة ليشرب القهوة معها.
فيروز تغني بصوت خفيض ورائحة بخور وهال تحملها جدائل قهوة ساخنة انسكبت في فنجانين اثنين واحد للسيدة الخمسينية وآخر للشاب الذي غادر البيت منذ عامين، وما زالت أجنحته تخفق بين أفئدة سكان البيت والحيطان التي صارت حميمة وعزيزة وغالية.