ثقافة

مـشّـاءٌ عـلـى دروبِ الـذّاكــرة

اخترتُ المسيرَ هذا اليوم ككلّ يوم جمعة، وحدي على دروبِ الطبيعةِ الجاهليّة المحفورةِ بخطواتِ مَنْ ساروا قبلي، وربّما فكروا مثلي، وأظنّ أنهم بكوا في وحدتهم، وضحكوا، وغنّوا، وعادوا صغاراً، واستحضروا شيخوخةَ الروح! سرتُ مسافةً تزيدُ عن ثمانيةِ أميالٍ دونَ أن أتكلم، كي لا أبدوَ نشازاً في حفلةِ الطيور الموسيقيّة، وهي ترقصُ مع الريحِ الشرقيةِ رقصةَ البردِ المنثورِ على المرتفعاتِ السّاحليةِ الشّامخة. آلافُ الأفكارِ المتشقّقةِ هرعت إلى خيالي طالبةً الارتواء، كأنني كنتُ على موعدٍ مع كلّ مكوناتِ الحياةِ، كأنني كنتُ مدعوّاً لحفلةٍ من حفلاتِ الطّبيعة، حيثُ لا أزياءَ تنكّريّة، لا أقنعة، لا ابتسامات مصطنعة، ولا مصالحَ مترابطة!هناكَ على سفحِ ذلك الجبل اخترتُ دوماً استراحتي كمحاربٍ في جيشِ الهاجس، أقطفُ زهور التّعبِ من أحضانِ الشرود، وأنثرُ عطرَ الوِحدةِ على مساماتِ النّفس! هناكَ في الطبيعةِ البِكر، لا حدودَ واضحة ما بينَ الخالقِ والمخلوق، الشمسُ خالقٌ، والنّماءُ مخلوق، النّماءُ خالقٌ، والثّمرُ مخلوق، المطرُ خالقٌ، والزّرعُ مخلوق، الزّرعُ خالقٌ، والإنسانُ مخلوق، الإنسانُ خالقٌ والمشهدُ مخلوق! لم أشعر بالتّعب، كأنّ كلّ خطوةٍ أخطوها تزيدُني نشاطاً، تحرّكُ الدّم المتجمّدَ في شرايينِ اليأس، كأنّ كلّ مسافةٍ تقصرُ وتطولُ تبعاً للفكرةِ المرافقةِ لها، حتّى أنّني كنتُ أحسّ بالكثيرينَ حولي، بعضُهم يلهو بصخبٍ، والبعضُ الآخرُ يُمسكُ يدي إلى حيثُ يريدُني أن أذهب، وآخرونَ يلتقطونَ بعضَ الأفكارِ الساقطةِ سهواً من جيوبِ دموعي! كنتُ وحيداً بالجسد، مزدحماً بالأرواحِ، بعضُها رحلَ عن هذهِ الدّنيا، والبعضُ الآخرُ مازالَ في أمكنةٍ بعيدة، يصارعُ الموتَ على لحظاتِ أمل. أشجارُ الصّنوبرِ الكثيفة تؤمّنُ ملجأً للكثيرِ من الحيواناتِ هرباً من مطرٍ وبردٍ وافتراس، النّباتاتُ الشّوكيةُ تقطعُ الطّرقَ الوعرة، وتنمو حيثما شاءت دونَ خوفٍ من حدود، آثارُ معاركِ اللّيلِ الوحشيّةِ مازالت على الأرضِ، ريشاً، ودماءً. مجتمعُ الغابةِ على قسوتهِ مازالَ يحتفظُ ببعضِ الأمانِ هنا وهناك، حيثُ النّهارُ وقتُ هدنةٍ، وإطعامٍ للجميعِ. تحضرُ المقارناتُ رغماً لا إرادةً، كائناتٌ بلا عقولٍ تجدُ فسحةً لها للبحثِ عن طعامٍ ومأوى وشمسٍ ونموّ، وكائناتٌ فُضّلتْ على غيرها بالعقل، لا تجدُ لحظاتِ راحةٍ، ولا تملّ من البحثِ والبحثِ عن إسكاتِ الجوعِ دونَ جدوى. هنا مكانُ الدّراسةِ حيثُ قضيتُ مراهقتي بين هذه الشّجيرات والكتابُ في يدي، أسيرُ جيئةً وذهاباً حتّى رسمَتْ أقدامي بينَ النّباتاتِ طريقَ التّفوق. هناك لعبْنا كرةَ القدم إلى أن ملّ التّعبُ من تنهيداتنا المتلاحقة، هنا كانت رحلةُ المدرسة ورائحةُ الطّعام مازالت عالقةً في الجوّ والذّاكرة. كلّ مكانٍ في غابةِ الصّنوبرِ هذهِ لهُ جذورٌ في أعماقِ الماضي، كلّ ظلّ احتضنَ رأسي ذاتَ حرّ، كلّ أكمةٍ حَمَتْ جسدي من بللٍ ذاتَ مطرٍ، كلّ جرفٍ صخريّ توسّدتُهُ يرمقني حين أمرّ بهِ كأنّهُ يسألُ عن حالِ الحياةِ بي. لا أستطيعُ أبداً أن أفصلنَي عن تضاريسِ هذهِ الغابة، لا أصدّقُ أنني لم أنمُ يوماً على جنباتِ إحدى الصّخور، ولم أطفُ على سطحِ بركةِ ماءٍ صغيرة، ولم أكنْ قشّةً في عشّ طير، ولم أسقط كورقةٍ صفراءَ من على غصنِ داليةٍ برّيةٍ وحيدة! مشّاءٌ على دروبِ الماضي، ألمّ ضحكاتِ الطفولةِ العالقةِ بين الحجارة، وأزرعُ بذورَ الشّوقِ لرفاقٍ وهبوا الرّجولةَ للتراب. لم أستطع أن أكتبَ قصيدتي رغمَ كلّ ما يحيطُ بي من جمال، خجلتُ من وصفي وتعابيري في حضرةِ هذا الصّمتِ البهيّ، خجلتُ من فقرِ خيالي أمامَ هذا الواقعِ الثّري، خجلتُ أن أفشي سرّ هذا الألقِ. سرتُ وحدي عبرَ الأزمنة، رافقتْني تلك الأمكنة إلى التّاريخ، حكتْ لي قصصَ الغزاةِ والمارّينَ على دروبِها، كشفتْ لي سرّ صمودها بين ذراعيّ الأبد. عدّدتْ لي أسماء من مشوا قبلي هنا، ومنحتهم وإيّايَ سرّ بقائها. الأمكنة لا تنسلخُ عن ساكنيْها، عن عابريْها، عن مانحيّ جمالها ما يستحقّ من دهشةٍ وذاكرة. سرتُ وحدي مكتظّاً بالمشّائين، آثارُ خطواتهم توحّدتْ مع خطواتي، أحاديثهم، صلواتهم، أغانيهم، كلّها قرئتْ على لساني بصوتٍ يكادُ يشبِهُ في جلالهِ الصّمتَ الملائكي. هناكَ في الطبيعةِ، الجفافُ شيطانٌ، وصلواتُ المطر ملائكية، تُسمعُ الأدعيةُ من صدى حفيفِ الريحِ بأطرافِ (الخزامى)، و(الشّيح)، و(الآس). التّكفيرُ يُختَصَرُ بنبتةٍ خارجةٍ عن اتّجاهِ ميلانِ قطيعِ الحشائش، والإرهابُ إنسانيّ حُكماً، يتمثّلُ بدهسِ غصنٍ غضّ، أو اقتلاعِ جذرٍ مراهق! هناكَ في الطبيعة، الدّينُ للجمال، والجمالُ للجميع..! اخترتُ المسيرَ إلى حيثُ يمكنني استرجاعُ الأمل، بعيداً عن فوضى الواقعِ وضجيجِ الحقّ! إلى حيثُ يمكنني أن أدنو من أذنِ الباطل، أو ارتفعَ إلى مقامِ جبين الوطن. الكل هناكَ في الغابةِ الصّنوبريّةِ، لهُ القدرةَ على إقناعكَ بربوبيّته النّسبية…حتّى أنت!.

وسام محمد ونوس