ثقافة

وسيم و الكيس

لما حاول الهواء رفعي عن الأرض كنت أرجوه ألا يفعل و أن يبقيني قليلاً , لا أريد أن أتركه وحيداً و أنا لا استطيع الحركة من تلقاء ذاتي, لا استطيع العودة إلى الرصيف في حال ابتعدت عنه , إنه ملقى على الرصيف منذ عدة أيام , كنت أراقب الحشرات و هي تتمدد في جسده الصغير و في فتحات ثيابه المتهرئة و أرجوها أن تبتعد و لكن لا فائدة.
أكره عجزي عن حمايته , أكره أني لا أملك دموعاً, اليوم اختفت ملامح وجهه بشكل كبير لم أعد أميز فيه إلا اللحم المتهرئ , أنا لا افهم الموت، في البداية اعتقدت أنه نائم بعد أن سقط على الرصيف مترنحاً وغرق رأسه ببركة دماءه, تحطمت العبوات التي احتويها و التي كان جمعها طوال النهار ليأكل بثمنها القليل من الطعام, تعب كثيرا وهو يجمعها كان مشواره اليومي طويلاً جداً ,يسير كل يوم صباحاً في شوارع مدينة نصف متهدمة و نصف حية ولكن الأكيد أن الذي لم يتغير هو قسوتها , ذات مرة لحق به أولاد آخرين يريدون تخليصه ما جمع فأمسك بي و ضمني لصدره بقوة وركض مسرعاً رغم أن حذائه الكبير الذي كان ينتعله في قدميه الصغيرين يعيق سرعته و لكنه في النهاية أختبأ في مدخل بناء و جلس متقوقعاً على نفسه و بدأ يكلم نفسه و يخاطب أمه و أخوته الذين أخذتهم الحرب و تركوه وحيدا في أتون الكراهية لا يشبع , ( يا أمي أنا بطلت زعلك مني بطلت أعمل شي بس رجعيني ع البيت ,أنا ما لقيت بيتنا و ما عاد عرفت حارتنا ) كان يقول هذه الكلمات و يبكي و ينتهي بكائه بالنوم , اليوم تأكدت أنه لن يستيقظ بعد اختفاء ملامحه ربما من الخطأ بقائي جنبه علي أن أترك نفسي للهواء يحملني بعيداً , دائما استغرب من البشر كيف يمرون جانب الرصيف ولا يلتفتون له , هل من الممكن لطفل أن يكون غير مرئياً لهذه الدرجة ؟ و لا يراه أولئك الذين يجوبون الطرقات يهتفون لشيء اسمه حرية , أو أولئك الذين يسرعون إلى الجوامع ليدعوا إلههم و لم ينتبهوا أنه هنا ملقى على الرصيف ينتظرهم بجانب هذا الطفل , كل ما يهمني الآن أنا ككيس القمامة هو أن أذهب إلى النار لتصهرني مرة أخرى , لأني بالتأكيد لن أذكر وسيم عندما أكون كيساً جديداً أو حذاءً بلاستيكياً أو أي شيء بلاستيكي , كيف يتحمل البشر ذكرياتهم ؟
نسيبة مطلق