الصحافة الورقية مَن يَسبِق الآخرَ في الرّثاء؟!
في مبادرة ذاتية لأحد الكتاب الغيورين على الصحافة التقليدية، دعا الكتاب والصحفيون الوطنيون الحقيقيون إلى بذل كل جهد ممكن “بشكل فردي أو جماعي” للعمل على إنقاذ صحيفته المفضلة المهددة بالإغلاق لأسباب عديدة، لإيمان منه بأن ذلك الأمر بات يشكل تهديداً للوعي والإدراك والثقافة التي شبت عليها أجيال عريضة منا.
وأن يَنْشغل المرء بأمر إغلاق صحيفة فهو لا يعنيها هي بالتحديد فقط، لكن وإن كان هذا الظاهر من الأمر، أو أنه يبدو بشكل ما دفاعاً عن الكلمة المكتوبة؛ والصحافة الورقية بشكل عام؛ لكنه دفاعُ عن الإيمان التام بأن للإعلام تأثيره الكبير بكافة مستوياته وقطاعاته سواء المكتوب أو المسموع أو المرئي منها، وهو إحقاق لكلمة لا بد منها في حق تلك الوسيلة التي تنكبت على الدوام مهام عديدة بالنيابة عنا، واعترافاً بدورها الكبير بالرغم مما تتميز به بقية أطياف الإعلام من تأثير على مستوى الرأي العام.
فهل يمكن أن تعمى الأعين عن دور الصحافة الورقية في صناعة الصحفي الحقيقي على مستوى العالم، والثابت والمعترف به أن معظم الرموز الإعلامية التي تطالعنا على الشاشات العالمية وتغنيها بمعرفتها وقدراتها، كانت قد انطلقت من صحف تقليدية شكلت بداياتهم العملية ومدارسهم التي أغنت قدراتهم، ومصدراً أساسياً لما يبرعون به اليوم، مكتسبين ملامحهم الصحفية الخاصة الأولى منها، والمعلوم أيضاً أنه بإمكان أي محرر صحفي تقليدي يمتلك قدراً معقولاً من الخبرة، التصدي للعمل في كافة مجالات الإعلام الأخرى، مثبتاً ذاته بسهولة تامة، بينما العكس لا يصح دائماً، والأزمة التي باتت تلاحق عالم الصحافة الورقية ما عادت محصورة بصحيفة بعينها، لكن الأمر بات أزمة عالمية تهدد الصحافة الورقية وصناعها وكافة القطاعات التي تعمل في دائرتها بشكل عام، وهي أزمة ليست الصحافة الإلكترونية أول أسبابها وليس آخرها هذا الانكفاء المعيب لأجيال اليوم عن القراءة.
يتحدث شاب اعتمد لسنوات طويلة توزيع الصحف وسيلةً لكسب الرزق؛ أن الحال لم يعد كما اعتاد قبل ثلاث أو أربع سنوات، مشيراً أن معدل العاملين في المجال نفسه انخفض بمعدل 70% وهو بمعنى أو آخر ذات النسبة في انخفاض عدد القراء ومقتني الصحف التقليدية؛ ما دفعه وبشكل تلقائي للبحث عن وسيلة أخرى لكسب عيشه عبر العمل في تغذية المواقع الإلكترونية بالأخبار والمواد الصحفية “لن أقف مكتوف اليدين بانتظار أن تصيبني رصاصة الرحمة التي تهدد هذا القطاع، فأقتل؛ ويضيع مستقبلي المهني”، بينما بات هذا ملجأ الكثيرين ممن تقطعت بهم سبل العمل التقليدي، وهو حال الكثيرين ممن يرون في الصحافة مجرد مهنة ومورد رزق، وحال من يجد في الصحافة الإلكترونية والميديا منافساً يمتلك من القدرة ما يكفي لإزاحة كل ما هو تقليدي في عالم الإعلام وسواه من العوالم الأخرى، شرط أن تمتلك قدراً من المصداقية وجودة المحتوى والمضمون، ما يجعل من الحاجة إلى الورقي تنتفي.
الأزمة هذه والتي تعود إلى الكثير من العوامل هي في جزئية منها تتوقف على جهات التمويل الراعية التي قد تقرر في وقت ما أن تغلق باب الدعم لأسباب هي في مجملها عائدة إلى تنافر في الآراء أو تباعد في المواقف السياسية، فتوقع الصحيفة في دوامة البحث عن “معيل آخر” أو تلجأ إلى الانكفاء والاختفاء من الساحة.
ربما وبسبب فترة الحروب هذه التي يعيشها عالمنا العربي وبالتالي الركود الاقتصادي الذي يخيم بسببها، فإن الجميع لا بد سيبحث عن وسيلة للحد من نفقاته بينما يرى في انتشار الانترنت عبر الهواتف المحمولة بتكاليفه التي باتت زهيدة نسبياً، تغطي حاجته للمعلومة والخبر، وتجعله يلف العالم كله وما يحدث فيه بسرعة تعوزها الصحافة الورقية، وتدفعه بالتالي لقطع علاقته معها مهما كانت وطيدة.
الخبير العالمي “روس داوسن” كان توقع منذ فترة انقراض الصحافة الورقية وبشكل تدريجي؛ بدءاً من أمريكا وصولاً إلى بقية أصقاع الأرض وبالدرجة الأولى تلك التي تشهد انتشاراً أكبر وأوسع للشبكة العنكبوتية بوسائطها المتعددة وللهواتف المحمولة، مع إيمان كبير ومتنامٍ بالقوة الواقعية التي يمتلكها صنّاع هذا العالم الجديد؛ والذي يزداد عدد المعتمدين حتى في مجال الإعلان، وهو مجال يمتلك تأثيراً كبيراً في دعم الصحافة الورقية، بالإضافة إلى مشاكل عدّة تتفاقم في وجه الصحف الورقية، تتعلق بأمور الطباعة والإنتاج والتكاليف، واليد العاملة المخلصة؛ والتمويل بشكل خاص.
لكن.. رغم كل الإغراءات التي تغلف هذا العالم الجديد فهو لن يلغي ماتمتلكه تلك الصفحات الورقية من خصوصية تتجلى في دعوات ربما غلفها الحياء في بعضها، لكنها تحمل في طياتها أملاً ورجاء صادقاً لإنقاذ “ليس وسيلة عيش أو مأوى أقلام أخلصت لها، وليست دفاعاً عن الكلمة الصادقة والتي ستجد طريقها كي تقال بأي وسيلة” لكنها ولأسباب عديدة هي دفاعاً عمّا شكّل وبصدق وعينا وإدراكنا الأول ومصدر ثقافاتنا المتنوعة، مصنعاً لأصوات قالت كلمتها ولأفكار مبدعين صدروا للعالم صورة حضارتنا وتراثنا ومواهبنا التي بها نعتز، ومجالاً فتح صدره واسعاً ولأجيال عديدة للكلمة الحرة الصادقة، وسيلة لابد نخشى عليها من الانكفاء والانسحاب أمام الوحش القابع خلف هذه الشبكة الناعمة، والذي وإن كان يتمتع بالجمال والكياسة والإمكانات الكبيرة، لكنه يبق الوحش الذي لا يتوانى عن إشهار مخالبه إن دعته الحاجة “والأحداث تشهد”، ورغم الفوضى والمشاكل التي تحيط بها إلا أن تلك الصفحات بملمسها الذي اعتدناه، ورائحتها المميزة، تلك الوريقات التي لطالما كانت منبراً لكل الآراء والأصوات بكل توجهاتها في معركة طويلة نخوضها منذ القدم وإلى اليوم، وإن تعددت ساحاتها دفاعاً عن الهوية والوجود، بل إنها لا بد خاضت العديد من المعارك نيابة عنّا وعن سوانا، على أمل أن لا نستفيق ذات صباح وقد اغتالها صمتنا وحياد الآخرين، تاركة لنا مهمة رثائها والنعي، نحن الذين لا بد حلمنا في لحظة ما بركنٍ صغيرٍ على إحدى صفحاتها، تحمل نعياً أو رثاء لنا بعد أن رَعَت آراءنا وأفكارنا وبعضاً من كلماتنا ونحن أحياء.
بشرى الحكيم