ثقافة

عـــذراً فايِـــز قَـــزَقْ.. كَرِهْتـــك!

في فيلم فريد لا يغيب عن الذاكرة، فيلم كان عن البهجة والفرح؛ عن الدهشة البريئة، عن الجمال؛ جمال الروح، عن الحزن وآلام القلوب الحيّية، عن المذاقات الأولى للأشياء؛ الحب الوفاء والغدر؛ عن البسطاء وبراءة المشاعر.. وعن الحضارة التي زارتنا فوطئت في طريقها كل ما سبق؛ كنت أنت “إسماعيل” شاباً خجولاً برز في الفيلم الذي امتدت فترة عرضه في دور السينما السورية لمدة قاربت العام؛ “رسائل شفهية” الذي اختار العديد من مشاهديه عدم الاكتفاء بمتابعته لمرة واحدة وإعادة الكرّة حتى بات يسمى ” فيلم المليون مشاهد” وأحسب أو أني أكاد أقول أنك كنت الرافع للفيلم، بشخصيتك الفريدة وأنفك العجيب؛ بل أستطيع الزعم أن تلك الشخصية وبتفردها، باتت واحدة من الأيقونات الخالدة في سينمانا السورية؛ والتي ربما يصعب تكرارها حاملة الطعم ذاته والنكهة ذاتها، وقد جسّدت بساطة الإنسان في أصدق صورها، شاباً حرمته الدنيا ولو من بعض الحسن، وأنف فاق الطبيعة في حجمه؛ فبات يخشى البوح بما يُكن من مشاعر تجاه فتاة القرية الجميلة “سلمى” ليكون غسان الصديق هو المعين؛ صِلة الوصل؛ رسول “رسائل غرامه الشفهية” والذي سيقع في غرام الصبية عبر مشاعره المنقولة.
وإسماعيل؛ تلك الأيقونة الجميلة؛ ربما احتجت زمناً طويلاً حتى صدّقت أن ممثلاً مسرحياً كبيراً اليوم هو من وقف وراءها ويدعى فايز قزق، ولعل الكثيرين سواي استدركوا الأمر متأخرين مثلي، ليبقى هو؛ إسماعيل لصيق الذهن طويلاً.. طويلاً.
وعليك أيها الشاب الخجول ألا تظن أنك الشخصية الوحيدة التي علقت في الذاكرة، فلأخرس “ما يطلبه المستمعون” مكانته الخاصة، بينما احتل “عامر” تلك الشخصية المعقدة المتشابكة المشاعر، المتلونة بألوان قوس قزح؛ في فيلم “خارج التغطية” ركنه الخاص، عامر الذي لم يكتف بأعباء عائلته الصغيرة التي ناء بحملها ليضيف إليها التزامه تجاه أسرة صديقه السجين، فكنت من خلاله سائق التكسي الغضوب، وعامل الحلويات المخلص، مدرس اللغة العربية الناجح، الأب الحنون لزهير والزوج البائس لزوجة مسكينة، والعاشق التعس لزوجة الصديق.
عبقرية الأداء وإجادة تلوين الشخصيات تلك؛ لا بد أن يكون خلفها متيّم بعالم مسرح، يضيف من سحر هذا العالم إلى أدائه التلفزيوني، ذلك أنه رغم العشق المعلن للخشبة، أجاد نقل وتطبيق معارفه ونظرياته وعصارة تجاربه المسرحية على أدائه في العديد من المسلسلات التي شارك فيها “ألا يعتبر واحداً من أهم الذين جددوا وأجادوا توظيف خبراتهم المسرحية لتكون ملائمة لأدائهم التلفزيوني”؟!. رغم إيمانه أن “التلفزيون ليس مشروعاً ثقافياً” إذ يراه أقرب ما يكون إلى معتقل اختياري عام للمشاهدين تجري من خلاله أكبر عملية تخدير للعقول؛ وكل ذلك على حساب السينما والمسرح”.
على ذلك كان لأدوارك الدرامية حظوتها ومكانتها في الذهن؛ أو أنها على الأقل ليسهل على الذاكرة أن تستعيدها وتستحضرها ما إن تتم الإشارة إلى أدوار وشخصيات متفردة مفردة، مرت على تلك الشاشة الصغيرة. فها أنت؛ أو أنه ها هو “عسّاف” رجل الأمن البائس المسكين؛ الباحث عن زوجة تؤنس وحدة سنواته الأخيرة، والذي يقع في الورطة إثر الورطة بينما الرغبة تجره للسير خلفها وأنت لا حول لك ولا قوة. في واحد من أجمل أدوارك الكوميدية ولو أنها أتت سوداء سواد الأيام التي مرت بها، أو لعلها تلك الشخصية المتفائلة قليلاً ربما؛ في تلك اللوحات القصيرة التي لم تكن تتجاوز الواحدة منها الدقائق الخمس “ما في أمل”، البعيدة كل البعد عما يتطلبه التمثيل من بهرجة أو تكلف، وعن كماليات الصورة والعمل الدرامي، أو جماليات المكان، تلك اللوحات الثابتة التي لم يتغير زمانها أو مكانها، ولم يفتعل حوارها أو نصها، إذ تستوقفانا أنت والرائع بسام كوسا، شخصيتان على شِدة البساطة والسهولة الممتنعة التي ظهرتما بها والحوار “البسيط اللاذع” الذي جرى بينكما، استحال تقليدها، بتلك اللهجة التهكمية والسخرية القاتلة المتلائمة مع سخرية القدر الذي يمر بنا، لوحات كان لا بد لها أن تحتل مكاناً مناسباً لها على جدران ذكرياتنا. جميعها كانت أدواراً لافتة أحببناها فأحببناك من خلالها حتى أتيت اليوم وفي “فانية وتتبدد” متقمصاً دور الشيطان بذاته في واحد والحق يقال لا بد أنه من أصعب الأدوار، لتكون “أبو الوليد” الأمير راعي الدواعش؛ الذي ما بنى إمارته إلا لكي ينشر فكره الديني الممسوخ والمشوّه، يسيطر به على رعيته، ويسوغ من خلاله غريزة مريضة أثارتها فيه صدفة لمح فيها قدمي طفلة بريئة، ويبرر لي أن أقول بإعجاب شديد: عذراً فايز قزق، كرهتك.. فأبو الوليد بات كما العلقة لصيقاً على جدران الذاكرة.
بشرى الحكيم